
تشهد الدول الأوروبية، وبريطانيا على وجه الخصوص، تناقضاً صارخاً بين استثماراتها الضخمة في منع الهجرة غير الشرعية وعجزها عن معالجة أزمات اجتماعية داخلية خطيرة، أبرزها أزمة التشرّد والسكن. يستعرض هذا التقرير حجم المشكلة وجذور التناقض والآثار المترتبة عليه.
أزمة التشرّد في بريطانيا – الأرقام والحقائق
حجم الأزمة
وفقاً لتقرير صحيفة الغارديان البريطانية:
- 354,000 شخص يعيشون حالة تشرّد في أي ليلة معينة
- معدل 1 من كل 160 شخص – وهي نسبة مرتفعة جداً لدولة متقدمة
- 161,000 طفل من بين المتشردين – أي تقريباً 45% من الإجمالي
- المدن الصناعية الكبرى (مانشستر، برمنغهام، ليفربول) تسجل أعلى المعدلات
طبيعة المشكلة
التشرّد لا يعني فقط النوم في الشوارع، بل يشمل:
- العيش في مساكن مؤقتة وغير آمنة
- التنقل المستمر بين منازل الأصدقاء والأقارب
- الإقامة في فنادق رخيصة أو ملاجئ طارئة
- المساكن غير الصالحة للسكن
الأسباب الرئيسية
- ارتفاع تكاليف الإيجار: زيادة تفوق نمو الأجور بمراحل
- نقص المساكن الاجتماعية: تراجع بناء المساكن العامة منذ الثمانينات
- أزمة تكلفة المعيشة: تضخم حاد وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء
- سياسات التقشف: تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية منذ 2010
- البطالة والعمالة غير المستقرة: وظائف بأجور منخفضة وعقود مؤقتة
الإنفاق الأوروبي على مكافحة الهجرة
الميزانيات الضخمة
الدول الأوروبية تستثمر مليارات اليوروهات سنوياً في:
- الاتحاد الأوروبي دفع لتركيا أكثر من 6 مليارات يورو لوقف تدفق اللاجئين
- صفقات مماثلة مع ليبيا، تونس، المغرب، ومصر
- تمويل أنظمة استبدادية لمنع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا
- وكالة Frontex (حرس الحدود الأوروبي): ميزانية تجاوزت 5.6 مليار يورو للفترة 2021-2027
- أنظمة مراقبة بحرية وجوية متطورة
- جدران وأسوار على الحدود البرية
- مراكز احتجاز في اليونان، إيطاليا، وإسبانيا
- ظروف إنسانية سيئة وانتهاكات موثقة لحقوق الإنسان
- برامج ترحيل قسري مكلفة للغاية
- رحلات جوية مستأجرة خصيصاً لهذا الغرض
التناقض الصارخ – تحليل المفارقة
السؤال المحوري: كيف تنفق دولة مثل بريطانيا مليارات الجنيهات على منع دخول أشخاص يبحثون عن مأوى، بينما لديها 354 ألف متشرّد من مواطنيها؟
- تكلفة بناء مسكن اجتماعي واحد: 150,000 – 200,000 جنيه إسترليني
- لو استُثمرت أموال مكافحة الهجرة في البناء، لتم حل جزء كبير من الأزمة
- المهاجرون غالباً يساهمون اقتصادياً أكثر مما يستهلكون من خدمات
- أطفال بريطانيون ينامون في الشوارع بينما تُغلق الحدود أمام أطفال لاجئين
- معايير مزدوجة في التعامل مع المعاناة الإنسانية
- انتقائية في “الاستحقاق” للحماية والمساعدة
- استغلال قضية الهجرة كسلاح انتخابي
- تحويل غضب الجمهور من الفشل الحكومي إلى “الآخر”
- الهجرة ككبش فداء للتغطية على سوء الإدارة
الخطاب الشعبوي ودوره في تعميق الأزمة
- الواقع: أزمة البطالة سببها سياسات اقتصادية وتراجع الاستثمار
- المهاجرون غالباً يشغلون وظائف لا يرغب السكان المحليون فيها
- يساهمون في النمو الاقتصادي ويدفعون الضرائب
- الواقع: أزمة السكن ناتجة عن:
- توقف بناء المساكن الاجتماعية منذ عقود
- خصخصة المساكن العامة
- المضاربة العقارية والاستثمار الأجنبي
- المهاجرون واللاجئون يحصلون على نسبة ضئيلة جداً من المساكن الاجتماعية
- الواقع: الخدمات الصحية والتعليمية تعاني بسبب:
- سياسات التقشف وخفض الميزانيات
- سوء الإدارة والفساد
- نقص الاستثمار الحكومي
- المهاجرون يشكلون نسبة كبيرة من العاملين في القطاع الصحي نفسه
- تضخيم “تهديد” الهجرة وتجاهل الأزمات الحقيقية
- ربط كل مشكلة اجتماعية بالهجرة دون أدلة
- خلق حالة من الذعر الأخلاقي لكسب الأصوات
- التطبيع مع الخطاب العنصري والكراهية
الجذور الحقيقية للمشكلة
- تفكيك دولة الرفاه منذ حقبة تاتشر
- خصخصة المساكن العامة (Right to Buy)
- خفض الضرائب على الأثرياء والشركات
- تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية
- تركز الثروة في يد 1% من السكان
- تآكل الطبقة الوسطى
- ارتفاع الفقر رغم العمل (Working Poor)
- الفجوة بين الأجور وتكلفة المعيشة
- توقف بناء المساكن الاجتماعية الجديدة
- المضاربة العقارية والفقاعات السكنية
- غياب الرقابة على الإيجارات
- تحويل السكن من حق إنساني إلى سلعة استثمارية
التكلفة الحقيقية – مقارنة الأولويات
الإنفاق السنوي على مكافحة الهجرة غير الشرعية (تقديرات):
- معالجة طلبات اللجوء: 3 مليارات جنيه
- الترحيل والاحتجاز: 500 مليون جنيه
- تعزيز الحدود والمراقبة: 700 مليون جنيه
- المجموع التقريبي: 4+ مليارات جنيه سنوياً
- بناء 20,000 مسكن اجتماعي جديد سنوياً
- تمويل برامج دعم شاملة لـ جميع الـ 354,000 متشرّد
- استثمار في الصحة النفسية والإدمان
- برامج تدريب مهني وتوظيف
- دعم العائلات الفقيرة والأطفال
الاستثمار في حل أزمة التشرّد يحقق:
- مكاسب اقتصادية: تقليل التكاليف الصحية والأمنية
- مكاسب اجتماعية: تماسك المجتمع وتقليل الجريمة
- مكاسب إنسانية: كرامة الإنسان وحقوق الطفل
- استقرار سياسي: تقليل الغضب الشعبي الحقيقي
الآثار السلبية لسياسات مكافحة الهجرة
- وفيات آلاف المهاجرين في البحر المتوسط
- انتهاكات حقوق الإنسان في معسكرات الاحتجاز
- صدمات نفسية للأطفال واللاجئين
- التعاون مع أنظمة قمعية تنتهك حقوق الإنسان
- تطبيع الخطاب العنصري
- انقسام المجتمعات وتصاعد الكراهية
- تشويه القيم الأوروبية المعلنة (حقوق الإنسان، الديمقراطية)
- تآكل التعاطف والتضامن الإنساني
- صعود اليمين المتطرف
- تآكل المعايير الديمقراطية
- انتشار السياسات الشعبوية
- أزمة شرعية المؤسسات
الحلول الممكنة – إعادة ترتيب الأولويات
- برنامج بناء واسع للمساكن العامة
- تنظيم سوق الإيجارات ووضع سقوف للأسعار
- منع المضاربة العقارية
- ضرائب على المساكن الفارغة
- رفع مستويات الدعم الاجتماعي
- برامج توظيف وتدريب مهني
- خدمات صحية ونفسية متاحة للجميع
- دعم خاص للعائلات والأطفال
- إصلاح ضريبي عادل (ضرائب تصاعدية)
- رفع الحد الأدنى للأجور
- تنظيم سوق العمل وحماية العمال
- الاستثمار في التعليم والصحة
- طرق قانونية آمنة للجوء
- توزيع عادل للاجئين بين الدول
- احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان
- توقف التعاون مع الأنظمة القمعية
- سياسة خارجية عادلة تجاه دول الجنوب
- وقف الحروب والتدخلات العسكرية
- دعم التنمية الحقيقية في بلدان المنشأ
- مكافحة التغير المناخي
التناقض بين أزمة التشرّد الأوروبية والاستثمارات الضخمة في مكافحة الهجرة يكشف عن:
الحقيقة الأساسية
المشكلة ليست في عدد الناس، بل في توزيع الموارد وترتيب الأولويات.
- استغلال سياسي: استخدام الهجرة لتحويل الانتباه عن الفشل الداخلي
- أيديولوجيا نيوليبرالية: أولوية السوق والربح على حقوق الإنسان
- عنصرية منهجية: معايير مزدوجة في التعامل مع المعاناة الإنسانية
- قصر نظر سياسي: الحلول الشعبوية بدلاً من الإصلاح الهيكلي
الحل يتطلب:
- شجاعة سياسية لمواجهة الخطاب الشعبوي
- إرادة إصلاحية لتغيير السياسات الاقتصادية
- التزام إنساني بحقوق جميع البشر بغض النظر عن الجنسية
- رؤية طويلة الأمد بدلاً من الحلول الانتخابية القصيرة
لا يمكن لأوروبا أن تدّعي الدفاع عن القيم الإنسانية بينما تترك مواطنيها في الشوارع وتبني جدراناً لمنع الآخرين من طلب الأمان.
الأزمة ليست أزمة موارد – أوروبا من أغنى مناطق العالم. إنها أزمة أولويات وأخلاق وعدالة.
التغيير ممكن، لكنه يتطلب مواجهة الحقيقة: العدو ليس المهاجر الفقير، بل النظام الذي يفضّل حماية الثروة على حماية الكرامة الإنسانية.




