ترامب يطلق خطة غزة وسط توترات إقليمية

في سبتمبر 2025، شهدت المنطقة تطورين متلازمين غيّرا ملامح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. الأول كان الضربة الإسرائيلية المفاجئة على الدوحة في 9 سبتمبر، والتي استهدفت وفدًا من قادة حماس أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار. هذه الضربة أحدثت صدمة إقليمية وأثارت مخاوف عربية واسعة من إمكانية تكرارها في أي عاصمة أخرى. بعد أيام قليلة فقط، جاء التطور الثاني بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة جديدة للسلام في غزة تحت اسم “السلام الأبدي”، وهي امتداد محدث لـ”صفقة القرن”. الخطة، التي صيغت بالتعاون مع بنيامين نتنياهو وصهره جاريد كوشنر، تضمنت شروطًا أمنية قاسية مقابل إعادة إعمار القطاع، ما أثار رفضًا فلسطينيًا صريحًا، خاصة بعد تعديلات إسرائيلية مشددة. وبينما قبلت بعض الحكومات العربية الخطة على مضض تحت ضغط الخوف، برز رفض شعبي وفصائلي واسع، إلى جانب إدانة دولية متزايدة.
خلفية ما قبل الخطة
قبل سبتمبر 2025، كانت المفاوضات حول هدنة طويلة الأمد في غزة تسير ببطء، بوساطة أمريكية وقطرية. إدارة ترامب التي عادت مطلع العام كانت تسعى لإحياء “صفقة القرن” لعام 2020، والتي رفضتها الفصائل الفلسطينية لكونها منحازة لإسرائيل. مع تصاعد التوترات على الحدود واتهامات متبادلة بخرق الهدنة، لعبت قطر دور الوسيط الرئيسي، بينما مارست واشنطن ضغوطًا على الدول العربية لدعم خطة جديدة تركز على “نزع سلاح غزة” مقابل مشاريع إعمار. السعودية والإمارات أبدتا دعمًا مشروطًا، فيما حذرتا من أي تصعيد عسكري يعرقل مسار التطبيع. هذا المشهد أكد أن الخطة لم تكن وليدة اللحظة، بل جزء من استراتيجية أمريكية-إسرائيلية طويلة المدى لفرض ما تصفه واشنطن بـ”سلام المنتصر”.
الضربة الإسرائيلية على الدوحة
في 9 سبتمبر، نفذت إسرائيل غارة جوية استهدفت مجمعًا سكنيًا في الدوحة حيث كان يتواجد قادة من حركة حماس. الضربة التي استخدمت فيها 10 صواريخ دقيقة، لم تحقق أهدافها في تصفية القيادات، لكنها خلّفت خسائر مادية وأضرارًا نفسية واسعة. هذه الضربة اعتُبرت انتهاكًا خطيرًا لسيادة قطر، الحليف المقرب من واشنطن، وأثارت ذعرًا عربيًا غير مسبوق، حيث رأت عواصم المنطقة فيها رسالة مفادها أن “أي دولة قد تكون عرضة للضرب متى شاءت إسرائيل”. قطر وصفت العملية بأنها “عدوان سافر”، واستنكرت تبرير إسرائيل عبر قنوات أمريكية، في حين أبدت السعودية والإمارات قلقًا بالغًا، واعتبرتها تهديدًا للاستقرار الخليجي. عربياً، رُبطت الضربة بمخطط لإخضاع الأطراف قبل فرض أي تسوية، وهو ما جعلها مقدمة مباشرة لإعلان خطة ترامب.
توقيت مدروس
بعد أقل من أسبوع على الضربة، أعلن ترامب من البيت الأبيض، إلى جانب نتنياهو، عن خطة “السلام الأبدي لغزة”. الخطة تضمنت 20 بندًا، أبرزها نزع سلاح القطاع بالكامل، إعادة الإعمار بتمويل دولي، وإعادة جميع الرهائن، مقابل ضمانات أمنية لإسرائيل. التوقيت أثار جدلًا واسعًا، حيث رأت مصادر دبلوماسية أن الصياغة كانت جاهزة مسبقًا، وأن الضربة على الدوحة جاءت كرسالة سياسية لتهيئة الأجواء. كوشنر، الذي أشرف على التعديلات الأخيرة، وصفها بأنها “نسخة أكثر واقعية من صفقة القرن”، لكن مراقبين اعتبروها محاولة لفرض “سلام قسري” تحت الضغط العسكري.
الخوف يقود للتنازلات
أحدثت ضربة الدوحة ارتباكًا عميقًا في الحسابات العربية. السعودية والإمارات أبدتا دعمًا مشروطًا للخطة، بينما ركزتا على ضرورة “الحلول السلمية”. مصر، التي حافظت على دور الوسيط، رحبت بها بحذر واعتبرتها خطوة نحو “تهدئة الأوضاع”، لكنها حذرت من تداعياتها الأمنية. قطر، رغم كونها الهدف المباشر للضربة، أكدت استمرار دورها كوسيط، واعتبرت الاعتذار الإسرائيلي غير كافٍ. الأردن آثر الصمت، في حين برزت مؤشرات على قبول ضمني لدى بعض العواصم الخليجية لتجنب مواجهة مباشرة مع تل أبيب. هذا الخوف حول الخطة من “اقتراح سياسي” إلى “أمر واقع مفروض”.
المواقف الغربية والدولية
أمريكا دعمت الخطة بشكل مطلق، واعتبرتها “الفرصة التاريخية الأخيرة”، فيما تبنّت بعض العواصم الأوروبية موقفًا أكثر حذرًا. الاتحاد الأوروبي أكد تمسكه بحل الدولتين ورفض أي تسوية مفروضة بالقوة. روسيا دعت إلى مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بينما وصفتها الصين بأنها “خطوة أحادية” لا تلزم إلا أصحابها. على الجانب الآخر، أدانت تركيا وإيران الخطة بشدة، ووصفتاها بأنها “تصفية للقضية الفلسطينية”. هذا الانقسام الدولي أظهر أن واشنطن لم تنجح في حشد توافق عالمي حول المشروع.
رفض المقاومة الفلسطينية
المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، رفضت الخطة فور إعلانها. الحركة وصفتها بأنها “خطة استسلام”، خاصة مع التعديلات التي أضافها نتنياهو بالتعاون مع كوشنر، والتي شددت على الرقابة الأمنية وقيود إضافية على غزة. الفصائل أكدت أن الضربة على الدوحة لم تضعفها، بل زادت من تصميمها على رفض أي حلول تنتقص من حقوق الفلسطينيين. داخل غزة، سادت حالة من الغضب والشكوك، حيث اعتبر السكان الخطة “فخًا سياسيًا” يهدف لإدامة الاحتلال بدلًا من إنهائه.
غضب الشارع مقابل ارتباك الحكومات
في الشارع العربي، شهدت مدن مثل عمان وغزة وإسطنبول مظاهرات رافضة للخطة. مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى ساحة رفض جماعي، حيث انتشرت وسوم تندد بـ”السلام بالقوة” وتصفه بـ”استسلام مفروض”. في المقابل، بدت الحكومات العربية في موقف حرج بين استرضاء واشنطن والخشية من غضب شعوبها. منظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” وصفت الخطة بأنها “تجاوز للقانون الدولي”.
سلام مفروض أم مشروع هش؟
خطة ترامب الأخيرة أظهرت كيف يمكن للضغط العسكري أن يتحول إلى أداة لفرض حلول سياسية غير متوازنة. ضربة الدوحة مثلت أداة ترهيب، دفعت بعض الحكومات إلى القبول بتنازلات غير مسبوقة، لكنها في المقابل عززت رفض المقاومة والانقسام الدولي. مع المهلة الزمنية التي منحها ترامب لحماس للرد، تبقى المنطقة أمام احتمالين: إما أن تنهار الخطة كما انهارت “صفقة القرن”، أو أن يؤدي استمرار الضغط العسكري إلى فرضها جزئيًا. في كلتا الحالتين، يبقى الشرق الأوسط على صفيح ساخن، حيث يختبر “السلام بالقوة” قدرته على الصمود أمام حقائق الميدان ورفض الشعوب.