الرئيسيةمقالات الرأي

عبد الحليم قنديل يكتب : مصير المقاومة الفلسطينية

 

بقلم : عبدالحليم قنديل

 

حتى لو انتهت مفاوضات المرحلة الأولى من “خطة ترامب” إلى نتائج منظورة، وجرى تبادل الأسرى والانسحاب “الإسرائيلي” الجزئي الأول من “غزة” وإدخال المساعدات مع وقف إطلاق النار، فإن أحدًا عاقلًا لا يتصور أن تكون قصة الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 قد انتهت، حتى لو جرى الدخول المشكوك فيه إلى ترتيبات المراحل التالية، ووُضعت “غزة” عنوة تحت الوصاية والانتداب الأجنبي.

 

فكل ذلك عمل مضاد للطبيعة الأصلية للقضية الفلسطينية كصراع طويل المدى، جوهره التحرر الوطني الفلسطيني من ربقة استعمار استيطاني إحلالي إفنائي، لا يقبل التحايل على حقيقته بإجراءات تبدو إنسانية في ظاهرها، وتصور الوضع الفلسطيني كحظ عاثر ومأساة إنسانية تزول بتطبيب جراح ربع مليون شهيد وجريح ومفقود فلسطيني في جولة الحرب الأخيرة، أو بإعادة بناء غزة المدمرة حجرًا وبشرًا على نحو شبه كامل، أو بتخفيف تعب الموجوعين مقابل نزع “فلسطينية” فلسطين.

 

ذلك أن “غزة” الصغيرة هي فلسطين كلها مكثفة مبلورة، وهكذا كانت “غزة” دائمًا في التاريخ الفلسطيني المعاصر والحاضر، وهكذا ستكون في المستقبل بآلامه وأشواكه وأشواقه.

 

 

ولا نظن أن الأحاديث — وربما الثرثرات — قد تنتهي قريبًا عمّا جرى ويجري منذ عملية “حماس” وأخواتها صباح السابع من أكتوبر قبل عامين، سبقهما ميراث 75 سنة مثقلة بالدم والدموع والمجازر والتهجير.

 

يريد البعض حجبها عن الوعي والقلوب والأبصار، ويحصر القصة الفلسطينية في عملية “الكوماندوز” واختراق طلائع “غزة” لقلب كيان الاحتلال في مفاجأة مذهلة، ثم الرد عليها بحرب الإبادة الأمريكية “الإسرائيلية” بدعوى الانتقام، بينما لم تكن القصة كذلك.

 

فحروب الإبادة طبع جوهري تكويني في كيان الاحتلال، ولا يتسع المقام لسرد قصص مئات المجازر منذ “دير ياسين” إلى محرقة “غزة”. وقد استُشهد 150 ألف فلسطيني قبل السابع من أكتوبر، وطُرد مليون فلسطيني في نكبة 1948 تناسلوا إلى نحو ثمانية ملايين لاجئ اليوم، وأُسر مليون فلسطيني “إسرائيليًا” منذ حرب 1967.

 

لم تكن العدوانية “الإسرائيلية” الهمجية الإبادية وليدة صباح السابع من أكتوبر، سواء في “غزة” التي شُنت عليها أربع حروب تدمير قبل الحرب الأخيرة المتصلة، أو في الضفة والقدس المحتلتين منذ يونيو 1967، حيث توحش الاستيطان وتهويد الأرض بالجملة بعد “أوسلو” وتوابعها، حتى قارب عدد المستوطنين فيها المليون مستعمر.

 

وكان ذلك من أحلام الإرهابي “الليكودي” إسحاق شامير، رئيس وزراء الكيان وقت مفاوضات “مدريد” أوائل تسعينيات القرن الماضي، وأعاد مجرم الحرب “بنيامين نتنياهو” تجديد حلم شامير في كتابه مكان تحت الشمس (1993). وحتى قبل السابع من أكتوبر 2023 بأسابيع، كان “نتنياهو” في الأمم المتحدة يرفع خريطة تخلو بالكامل من “فلسطين”، وتضم “غزة” والضفة والقدس إلى كيان الاحتلال على نحو نهائي جازم.

 

لم تكن إسرائيل إذن، ولا راعيتها أمريكا المندمجة معها استراتيجيًا، في حاجة إلى ذريعة لشن حرب الإبادة، وإن تظاهرتا بذلك، وعلى نحو ما تردده أصوات ناعقة بالعربية، كثير منها مريب ويعمل بوضوح في خدمة الدعاية الأمريكية “الإسرائيلية” النازية المضامين، المفزوعة من بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه وتكاثره فوقها.

 

تزايد أعداد الفلسطينيين الراسخين في أرضهم المقدسة وتخطيها لأعداد اليهود المستوطنين كان هاجسًا مرعبًا لصناع المشروع الصهيوني ورعاته، حذر منه علماء السكان “الإسرائيليون” مبكرًا، واعتبروه بمثابة “حروب غرف النوم” الأخطر من حروب النار والدمار.

 

تضاعفت الهواجس “الإسرائيلية” في الثلاثين سنة الأخيرة، وكانت وراء الصعود المتصل في تيارات اليمين الصهيوني، وتصاعد حضور حركات أكثر عنصرية وتطرفًا على يمين “الليكود”، بينها ورثة حركة “كاخ” وزعيمها الحاخام “مئير كاهانا”، ثم تناسلت في أحزاب مستوطنين أكثر نفوذًا مثل “إتمار بن غفير” و”بتسلئيل سموتريتش” وغيرهما، حتى وصلوا إلى سدة الحكم مع “نتنياهو”.

 

وجوهر اتفاقهم كان صريحًا: السعي إلى حل نهائي لحضور الفلسطينيين المتزايد، إما بتدمير حياتهم، أو بالطرد والتهجير، أو بالإبادة الجسدية ما أمكن.

 

على هذا النحو، فإن حرب الإبادة عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023 كانت حتمية، إذ لم تعد هناك حلول وسط ولا تسويات موقوتة. أقدار الصراع تمضي إلى مداها الدموي، ما يعني أنه لا يصح محاكمة “حماس” وأخواتها على الهجوم ذاته أو على حساباته، فقد كانت — ولا تزال — بصدد أقدار لا يمكن تجنبها بقدر ما يجب مقاومة مضاعفاتها الأسوأ.

 

المعنى إذن، أن هجوم السابع من أكتوبر كان عملًا دفاعيًا، حتى وإن اتخذ صورة الهجوم الذي استبق إبادة وشيكة في مطلق الأحوال.

 

في مواجهة الأقدار، كانت جماعات المقاومة الفلسطينية حاضرة مستبسلة بما تستطيع، في ظل حصار خانق ممتد، منع عنها الرصاص والماء لعامين. ورغم غياب التكافؤ في السلاح، استطاعت المقاومة بأنفاقها وعقيدتها وبورش تصنيعها أن تقدم نماذج أسطورية من الفداء، توازت مع صمود الشعب الفلسطيني في وجه العذاب الأسطوري.

 

بدا “سر غزة” ساطعًا في المقاومة وفي احتمال العذاب معًا، إذ أن أغلب أهلها ممن عاشوا النكبات كلها. وكانت “غزة” مهدًا أول لحركات المقاومة من “فتح” إلى “حماس”، وكان مزيج المقاومة والعذاب هو الذي صنع أسطورتها عالميًا.

 

فقد قتلت المقاومة وجرحت نحو عشرة آلاف من ضباط وجنود العدو، ودمرت مئات من مركباته ودباباته، وتجاوزت الهجرة العكسية من كيان الاحتلال نصف مليون بحسب المؤرخ “الإسرائيلي” إيلان بابيه، فضلًا عن كلفة حرب الإبادة التي فاقت 100 مليار دولار.

 

وجرح “غزة” وشلالات دمائها وأشلاء أطفالها حطم صورة “إسرائيل” في الغرب، ونسف روايتها من جذورها، لتندلع انتفاضة عالمية كبرى رفعت اسم “غزة” و”حرية فلسطين” في ضمائر العالم، ودفعت إلى عزل “إسرائيل” وأمريكا دوليًا.

 

 

وجاءت “خطة ترامب” محاولة لعكس الاتجاه العالمي، والتستر وراء شعار السلام لتحقيق أهداف الإبادة بوسائل السياسة؛ فما عجزت عنه الحرب يسعى “ترامب” لتحقيقه من وراء لافتة إنهاء الحرب.

 

ولا تزال الخطة الجديدة تراوغ، بهدف إرغام الفلسطينيين على الخروج تحت مسمى “الهجرة الطوعية”، ومصادرة نور “غزة” بفرض حكم أجنبي، وتحويل قضيتها الوطنية إلى مقاولات عقارية، وسلب ثرواتها الغازية والبترولية، واحتجازها مؤقتًا قبل نقلها إلى “إسرائيل”، مع تكفير “غزة” بسيرتها الكفاحية، ونزع سلاح المقاومة ونفي قادتها.

 

قد تنجح هذه المحاولات إلى حين، لكنها ستواجه في النهاية نار الحقائق الكبرى، فالمقاومة حتى وإن نُزع سلاحها ستولد من جديد بأشكال مختلفة، لأن الاحتلال باقٍ والحرب لم تنتهِ.

 

وما دامت النار مشتعلة، ستنهض “غزة” من رمادها، تعود كما كانت — شاطئًا جميلًا وسرًا عميقًا — يحمل في جوهره سر المقاومة التي لا تُهزم.

 

فلم تُحسم الحرب أبدًا ضد “غزة” ولا ضد الفلسطينيين، ولا تزال القصة مفتوحة على فصول مقبلة.فانتظروا “غزة” التي تنهض من رمادها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى