الرئيسيةمقالات الرأي

محمد أبو طالب يكتب : المرأة في البرلمان… ديكور في دولاب زجاجي

بقلم محمد أبو طالب 

دخلت المرأة البرلمان كأنها الفجر المنتظر، كأنها تحمل مفاتيح العدالة الاجتماعية على كتفيها، كأنها ستُعيد صياغة المعادلة القديمة بين الصوت والظل. لكنها ما لبثت أن وجدت نفسها أمام مشهدٍ تم تجهيزه مسبقًا؛ ديكور مكتمل الأركان، والمطلوب منها فقط أن تبتسم أمام الكاميرات وتُلوّح من خلف الزجاج، لتُعلن الدولة بفخرٍ مزيف أنها “مكّنت المرأة”. تمكينٌ مكتوب بخطٍ عريض على واجهةٍ من زجاجٍ شفاف، بينما الحقيقة مختبئة في الأدراج الخلفية للقرار.

 

يا سادة، لقد صار الحديث عن تمكين المرأة أشبه بإعلانٍ تجاريٍّ لسلعة قديمة تُعاد تغليفها كل عام: نفس البريق، نفس الشعار، نفس اللاشيء. قالوا: “المرأة وصلت إلى البرلمان!” قلنا: “وأين صوتها؟” قالوا: “انظروا الأرقام!” قلنا: “ننظر الأثر!” فلم نجد إلا أرقامًا تتلألأ كأضواء الفاترينة، بينما الفعل في الداخل ساكنٌ كتمثال شمعٍ يرتدي وشاح الوطنية خلف زجاجٍ مغلق.

 

نعم، لدينا 162 امرأة في البرلمان — ربع المجلس تقريبًا — ولدينا 3 نساء فقط يرأسن اللجان النوعية من أصل 25 بنسبة 12%. أرقام أنيقة تليق بالعناوين الصحفية، لكنها بلا نبض، بلا موقف، بلا شجاعة تُحدث هزة تشريعية واحدة. كأنهنّ أصواتٌ صُمّت قبل أن تتكلم، أو كأن الميكروفون أمامهنّ للزينة لا للنقاش.

 

امرأة على المنصة… جميلة في الصورة، صامتة في الدور. امرأة ترفع يدها للتصويت لا للمساءلة، وتوقّع على البيان لا على التاريخ. وهكذا صار المشهد السياسي لوحةً مُحكمة الألوان، ناقصة الحياة. المرأة في البرلمان ليست في مواجهة السلطة، بل في تفاهمٍ وديٍّ مع الكاميرا. تتحدث بقدر ما يسمح به البيان، وتصمت بقدر ما يحميها المقعد. تتزين بصفة “النائبة”، وتخلع عن نفسها صفة “المناضلة”.

 

التمكين الذي خُدعنا به كان وعدًا من زجاج. فالكوتا التي بشّرونا بها ليست نافذةً نحو العدالة، بل قفصٌ ذهبيٌّ لامعٌ من الخارج، مغلقٌ من الداخل. يدخلن إليه بابتسامة فخر، ويخرجن منه كما دخلن — بلا صوت، بلا أثر، بلا صدى. قيل لهن: “أنتم تمثلن كل الفئات!” فصدقن، وصِرن صوتًا عامًا بلا هوية. امرأةٌ واحدة تُعرّف بأنها الفلاحة، والمسيحية، والشابة، وذوو الإعاقة، والمغتربة في آنٍ واحد! فأي تمثيل هذا الذي يبتلع المعنى ليصنع صورة جامعة لا تُعبّر عن أحد؟

 

لقد تحوّلت النائبة من رمزٍ للإنصاف إلى خزان صفات بشرية تُعرض في واجهة العدالة. لكن حين تُغلق الجلسة وينطفئ الضوء، يسود الصمت. صمتٌ يشبه الزجاج حين يُغلق عليه الباب. فما قيمة الرقم إن كان بلا روح؟ من قال إن العدالة تُقاس بالأرقام؟ من قال إن الصورة تُغني عن الصدى؟

 

صار البرلمان مسرحًا كبيرًا يُعرض فيه فيلم “التمكين الشامل” بنسخة محسوبة الإضاءة: لقطة هنا لامرأة تترأس جلسة، تصفيق هناك لنائبة تلقي كلمة عن الأمومة، وصورة جماعية على سلم المجلس تُنشر بعنوان “برلمان 2025… النساء في الصدارة”. لكن حين نبحث عن الصدارة في الواقع، نجدها مجرد ديكور سياسي متقن الصنع. خلف الواجهة اللامعة، لا قرارات، لا معارك، لا وجع حقيقي. مجرد صدى السلطة في فمٍ أنثويٍّ مُهذّب.

 

المرأة التي دخلت البرلمان لم تجد نفسها تُدافع عن قضايا المرأة، بل وجدت نفسها تُدافع عن السلطة في وجه المرأة. لم تدافع عن ذوي الإعاقة، بل أصبحت حاجزًا جديدًا أمامهم. لم ترفع صوت الشباب، بل أسكتته باسم “الانضباط”. لم تُناصر الفقراء أو المصريين بالخارج، بل اكتفت بعبارات المجاملة الدبلوماسية. من جاءت لتُصلح الخلل أصبحت جزءًا منه، ومن حملت راية العدالة الاجتماعية وجدت نفسها بلا سيف ولا راية.

 

وهكذا، خسر الجميع: المرأة التي حلمت بالتمكين صارت واجهةً تزيّن بها الدولة صورتها في الخارج، والشاب الذي انتظر من تمثله وجدها تتحدث بلغة لا تخصه، وذوو الإعاقة الذين حلموا بإزالة الحواجز وجدوا حواجز جديدة تُبنى باسمهم. التمكين صار تمويهًا، والواجهة صارت ستارًا يخفي وراءه العجز الجماعي.

 

المرأة في البرلمان اليوم تُدفع إلى الصدارة لتُغطي الصمت، تُعرض في الصورة لتُخفي العطب. وحين يعترض أحد على التهميش، يخرج الرد الجاهز: “عندنا 25% نساء في البرلمان، ماذا تريدون أكثر؟” وكأن وجود امرأة واحدة يُسكت كل المهمشين: الشباب، العمال، الفلاحين، وذوي الإعاقة. كأن العدالة صارت تُقاس بعدد الوجوه في الصورة لا بعدد القضايا في الجلسة.

 

لقد صنعوا من المرأة برهانًا على نجاح النظام في الدمج، بينما دمجوها في الصورة لا في القرار. جعلوها مرآة للرضا لا نافذة للضوء. لم يخذلكنّ المجتمع وحده، بل خذلتن أنفسكنّ حين اخترتن الأمان على الجرأة، والصورة على الموقف، والابتسامة على الصدام.

 

اليوم، المرأة المصرية في البرلمان لا تُواجه السلطة، بل تُعفيها من المواجهة. تجلس في الواجهة، بينما الميكروفون مغلق بإحكام. البرلمان وضعها في الضوء ثم أطفأ المصباح. والنتيجة أن المرأة أصبحت — من دون قصد — هي من تدفع الثمن. ليس لأنها فشلت، بل لأنها وُضعت في موقعٍ لا يُتيح لها إلا أن تفشل.

 

إن البرلمان ليس صالونًا للديكور الاجتماعي، بل ميدانٌ للمواجهة. والتمكين لا يُقاس بالمقاعد بل بالمواقف. وما لم تكسر المرأة الزجاج الذي يُحيط بها، ستظلّ صورتها جميلة في الكادر، فارغة في التأثير.

 

البرلمان يضع المرأة في الواجهة… ثم يُغلق الميكروفون.

وحين ينتهي التصفيق، يكتشف الجميع أن الصوت لم يكن صوتها، بل صدى السلطة في فمٍ مؤنثٍ جميل. وهكذا يتحوّل التمكين إلى تمويه، والواجهة إلى مرآةٍ عاكسة تُظهر وجه المرأة… دون أن تسمح لها أن تُطل منه. لكن الزجاج مهما كان مصقولًا… لن يُخفي الشروخ طويلًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى