الداعية: إيمان صبحي تكتب : حين يبقى الأثر بعد الرحيل !

بقلم الداعية: إيمان صبحي
واعظة بوزارة الأوقاف
زرت اليوم مكاناً يذكرك بأن القلوب الطاهرة تبني صروحاً لا تهدمها الأيام..مكان لا يسمع فيه الزائر أنين المرض فحسب، بل يسمع همسات الأجر، ويشهد تجسيداً حياً للحديث النبوي الشريف: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية…”.
كانت وجهتي جمعية “الباقيات الصالحات” رفقة عدد من زميلاتي الواعظات بوزارة الأوقاف لحضور فعاليات الاحتفال باليوم العالمي للزهايمر، وهو اسم اختير بوفاء وعمق، فما يقدم هنا من رعاية وكرامة هو حقاً من الأعمال التي تبقى لصاحبها في صحيفتها بعد رحيلها.
ما إن تدخل هذا الصرح الإنساني حتى تشعر بسلام غريب..ليس سلام الصمت، بل سلام الكرامة الممنوحة لمن قد تنساهم الدنيا.. رأيت وجوهاً أضاءها الصبر، وعيوناً تبحث عن ذاكرة شاردة، ولكنها تجد هنا يداً حانية، وصدراً رحيباً، وعلاجاً متقدماً..كل ذلك كان حلماً في قلب امرأة عظيمة، رأت قبل غيرها معاناةً خفية.
الراحلة التي رأت ما لم يره الكثيرون
لم يكن هذا المكان ليوجد لولا بصيرة وإرادة وقفت خلفهما: الدكتورة عبلة الكحلاوي (أم أحمد) رحمها الله..لطالما عرفناها داعية بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، لكنها هنا كانت داعية بالفعل والبناء..رأت -رحمها الله- أن مرضى الزهايمر وأسرهم يمرون بمحنة مضاعفة: محنة النسيان، ومحنة نقص الوعي المجتمعي والرعاية المتخصصة.
فلم تكتف بالدعوة إلى الرحمة بهم، بل حملت على عاتقها تحويل هذه الرحمة إلى واقع ملموس..تصورت هذا المشروع، واجتهدت في البحث عن التمويل، ووضعت اللبنات الأولى لبيت علمي وإنساني، يجمع بين أحدث ما توصل إليه الطب في التعامل مع المرض، وأعمق ما جاء به ديننا من قيم الرحمة والكرامة والإحسان.
كانت تؤمن بأن رعاية هؤلاء المرضى ليست خدمة طبية فحسب، بل هي عبادة متكاملة: عبادة بالجسد في رعايته، وبالعقل في تحفيزه، وبالقلب في تطميته، وبالروح في تذكيره بخالقه.
ماذا رأيت في “الباقيات الصالحات”؟
رأيت عالماً مصغراً من الإنسانية:
· أقساماً مجهزة تفهم خصوصية المرض، لا تتعامل مع المريض كرقم، بل كإنسان له تاريخ وقصة وتقدير.
· كادراً طبياً وتمريضياً تتلمس في عيونهم وسكناتهم الصبر والرفق، وكأنهم يقرأون أجراً لا يرونه بعيونهم الدنيوية، بل بعيون إيمانهم.
· أنشطة تحفيزية تذكرك بأن الذاكرة قد تضعف، ولكن الروح تبقى شعلة يمكن إضرامها بالحب والاهتمام.
· دعمًا نفسيًا واجتماعيًا للأسر، لأن المرض يصيب المريض ويصيب من حوله.
في تقديري كل هذا لم يأت من فراغ..إنه ثمرة رؤية سبقت زمانها، وعمل دؤوب لم يتوقف عند حد، وهمة عالية لم تردعها التحديات..الدكتورة عبلة رحمها الله لم تبن مبانٍ فقط، بل بنت منهجاً في الرحمة.
كلمتي للمرضى: “أنتم في ذاكرة الرحمن”
وقفت بين المرضى الأعزاء، وأردد في قلبي دعوة الصبر، وقلت لهم مختصراً:
“أيها الأحبة، إن الذي ينسى شيئاً من ذاكرة الدنيا، فإن الله لا ينساه.. أنتم اليوم في ذاكرة الرحمن، وإن نسِيَتكم الذاكرة الدنيوية.. كل لحظة صبر تحتسبها عند الله أجراً بغير حساب، وتكفيراً للذنوب، ورفعة في الدرجات..فأنتم -بصبركم- تكتبون صدقة جارية لأنفسكم، ولأهلكم الذين يرعونكم.. أبشروا فقد وعد الله الصابرين بأجر عظيم.”
رسالة من القلب
أقول لأسرة الدكتورة عبلة الكحلاوي ولمن يسير على دربها في هذا المستشفى: لقد وفيتم.. لقد حولتم حبها وإيمانها إلى مؤسسة تنبض بالحياة، وتنير الطريق للكثيرين.. هذا هو العمل الخالد.. هذا هو المعنى الحقيقي للباقيات الصالحات.
وأقول لكل من يعمل بين جدران هذا المستشفى: أنتم لا تغسلون أجساداً فحسب، بل تغسلون قلوباً بالرحمة، وتكتبون لأصحاب هذا العمل صدقة جارية إلى يوم القيامة.
غادرت مستشفى “الباقيات الصالحات” وأنا أحمل في قلبي يقيناً: أن الخير أبقى. قد تذهب الأسماء وتتغير الوجوه، لكن الأثر الطيب باقٍ. لقد نجحت الدكتورة عبلة – عبر هذا الصرح – في تحويل “النسيان” من نقمة إلى مدرسة للصبر، ومن محنة إلى مصدر لأجر لا ينقطع.
طوبى لمن تكون ذكراه صدقة جارية، وعمله باقياً بعد موته..رحم الله الدكتورة عبلة الكحلاوي، وجعل هذا المستشفى شاهدا لها لا عليها، وبارك في كل من يسهر على استمرار رسالة الرحمة بين جدرانه.




