الرئيسيةمقالات الرأي

الدكتور عادل عامر : مصر تتحول إلى «صمام أمان» إقليمي

 

بقلم : الدكتور عادل عامر

 

شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين تحولاتٍ سياسية واقتصادية وأمنية متسارعة، ترافقت مع تصاعد النزاعات الداخلية والإقليمية وتبدّل موازين القوى الدولية. في خضمّ هذه الاضطرابات، برزت مصر كدولة محورية استطاعت أن توازن بين المصالح الوطنية ومتطلبات الاستقرار الإقليمي، لتتحول تدريجيًا إلى صمام أمانٍ حقيقي يحول دون انفجار المنطقة ويدعم تماسك النظام العربي.

 

لم يكن توقيع اتفاقية الشركة الاستراتيجية بين مصر والصومال أمرا مفاجئا في الوقت الحالي، بل كان تتويجا لتقارب البلدين القائم على التعاون لمواجهة التحديات المشتركة في ظل تحولات كبرى تشهدها منقطة القرن الأفريقي والبحر الأحمر.

 

الاتفاقية التي وقع عليها في القاهرة الرئيسان المصري عبد الفتاح السيسي والصومالي حسن شيخ محمود تغطي مجالات متعددة تشمل السياسية والتعاون العسكري والأمني والتعليم والثقافة وبناء القدرات والتعاون القضائي والاقتصادي إلى جانب التعاون في مجال إدارة الانتخابات.

 

وتوقيع هذه الاتفاقية يرتقي بالعلاقات الثنائية بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في ظل تقارب حذر بين الصومال وإثيوبيا اتسم بخفض التصعيد السياسي، كما يأتي وفقا لمخرجات المصالحة التي ترعاها تركيا، لكن هذا التقارب يثير تساؤلات عن قراءة أبعاد هذه الشراكة والموقف الإثيوبي منها.

 

أولًا: ثبات الدولة المصرية في مواجهة التحديات

 

منذ عام 2014، انتهجت القيادة المصرية سياسة إعادة بناء مؤسسات الدولة وترميم الاقتصاد الوطني بالتوازي مع استعادة الدور الإقليمي والدولي.

 

وقد استطاعت القاهرة عبر سياسات التوازن والانفتاح الحذر أن تتجنب الانزلاق في صراعات المحاور، وأن تفرض خطابًا عقلانيًا قائمًا على الوساطة والحلول السياسية بدلًا من المواجهات العسكرية.

 

ففي حين تهاوت أنظمة وتفككت دول، نجحت مصر في ترسيخ مفهوم الدولة القومية القوية القائمة على الاستقرار الداخلي، ما جعلها مرجعًا للوسطية السياسية والعسكرية في المنطقة.

 

ثانيًا: الدور الأمني والاستراتيجي لمصر

 

1. في مواجهة الإرهاب

 

تحولت مصر بعد 2015 إلى حائط صدّ رئيسي ضد الإرهاب العابر للحدود، خصوصًا في شمال سيناء وعلى حدودها الغربية والجنوبية. وقد شكّلت عملياتها الأمنية والعسكرية المتواصلة نموذجًا ناجحًا في محاصرة التنظيمات المتطرفة وحماية أمن البحر الأحمر والبحر المتوسط.

 

2. في ضبط الحدود الإقليمية

 

بفضل التنسيق المستمر مع جيرانها في ليبيا والسودان وغزة، أصبحت مصر اللاعب الأساسي في ضبط الحدود ومنع تسلل الأزمات إلى الداخل الإقليمي، ما جعلها طرفًا أساسيًا في أي ترتيبات أمنية شرق أوسطية.

 

3. في الوساطة الإقليمية

 

برزت مصر كوسيط نزيه في أزمات غزة، السودان، وليبيا، إذ استطاعت من خلال دبلوماسية متوازنة أن تجمع الفرقاء على طاولة الحوار، وتُبقي خيوط الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف الدولية والإقليمية، بما في ذلك الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج.

 

ثالثًا: القوة الناعمة والدور الدبلوماسي

 

لم يقتصر تأثير مصر على بعدها العسكري أو الجغرافي، بل امتد إلى ما يمكن تسميته بـ القوة الناعمة المصرية.

 

من خلال مؤسساتها الثقافية، والأزهر الشريف، والإعلام المصري، والتعليم الجامعي، والعمالة الماهرة المنتشرة في العالم العربي، استطاعت مصر أن تصيغ الوعي الجمعي العربي وتغرس مبادئ الوسطية والاعتدال والتسامح.

 

كما عززت القاهرة حضورها في الاتحاد الإفريقي، وعادت بقوة إلى القارة عبر مشروعات تنموية ومبادرات في مجالات البنية التحتية والطاقة، مثل مشروع الربط الكهربائي مع السودان وليبيا والسعودية، ما جعلها محورًا لربط ثلاث قارات: إفريقيا وآسيا وأوروبا.

 

رابعًا: الاقتصاد كركيزة للأمن الإقليمي

 

شهد الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة قفزات نوعية في حجم الاستثمارات والتنمية، انعكست على مكانتها الإقليمية.

 

بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر نحو 14.3 مليار دولار خلال عام 2024، وفقًا لتقارير البنك المركزي المصري، وهو أعلى مستوى خلال عشر سنوات.

 

كما بلغت الاستثمارات المحلية الجديدة أكثر من 1.2 تريليون جنيه مصري في العام المالي 2024/2025، بزيادة تقارب 27% عن العام السابق.

 

واحتلت قناة السويس مكانة محورية كمصدر للعملة الصعبة، حيث سجلت إيرادات بلغت 8.8 مليار دولار في 2024 رغم التحديات العالمية.

 

وارتفع ناتج الغاز الطبيعي المصري إلى أكثر من 6.5 مليار قدم مكعب يوميًا، ما جعل مصر مركزًا إقليميًا للطاقة وتصدير الغاز المسال إلى أوروبا عبر موانئ أدكو ودمياط.

 

إلى جانب ذلك، أسهمت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في جذب عشرات الشركات العالمية في مجالات الصناعات الخضراء والهيدروجين والطاقة المتجددة، كما أطلقت الحكومة مبادرة “رؤية مصر 2030” لتطوير البنية التحتية والرقمنة والاستثمار في التعليم والصحة.

 

إن هذا الزخم الاقتصادي جعل من مصر ركيزة استقرار مالي واقتصادي في المنطقة، ووجهة آمنة لرؤوس الأموال في ظل الاضطرابات الإقليمية.

 

خامسًا: البعد الإنساني والسياسي في الموقف المصري

 

في كل الأزمات الإنسانية، سواء في غزة أو السودان أو ليبيا، كان الموقف المصري منضبطًا ومسؤولًا، يوازن بين التعاطف الإنساني والاعتبارات الأمنية.

 

لم تسمح القاهرة بأن تتحول أراضيها إلى ساحة صراع أو تهريب، لكنها في الوقت نفسه فتحت ممرات الإغاثة والمساعدات، وقدّمت حلولًا إنسانية تحفظ كرامة الشعوب وتحمي الأمن القومي.

 

سادسًا: مصر وصياغة التوازنات الجديدة

 

في ظل التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، الاتحاد الأوروبي)، تنتهج مصر سياسة خارجية متعددة المحاور، تقوم على مبدأ «عدم الانحياز»، مع الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الجميع.

 

هذا النهج جعلها شريكًا موثوقًا في أي حوار دولي حول الأمن الإقليمي، سواء في قضايا الطاقة أو الهجرة أو مكافحة الإرهاب.

 

بعد فترة وجيزة من حصولها على الاستقلال في عام 1960، طالبت الصومال بإقليم “أوغادين” الإثيوبي باعتباره إقليمها، وخاضت حرباً حدودية استمرت شهرين على المنطقة ذات الأغلبية الصومالية في عام 1964 بعد اندلاع انتفاضة هناك. وفي عام 1977، شن الصومال غزوًا واسع النطاق على إثيوبيا، إلا أن التدخل السوفيتي- الكوبي ألحق بالصومال هزيمة ساحقة ووضعه على مسار طويل من الصراع الأهلي. وفي كلتا الحالتين، قدمت مصر مساعدات عسكرية لتغذية مغامرات الصومال ونزعته الوحدوية. غير أن عمليات نقل الأسلحة الأخيرة تُعدّ العملية الأولى التي تقوم بها القاهرة منذ عام 1977.

 

وفي الفترة ما بين عام 1993 وعام 1995، شاركت مصر بنحو 1600 جندي في “عملية الأمم المتحدة الثانية في الصومال” لدعم جهود حفظ السلام، بعد التزامها بتوفير كتيبة في العملية الأولى. وعندما تسلمت حكومة اتحادية جديدة السلطة في الصومال في عام 2022، كثّفت مصر من دعمها للصومال من خلال تدريب ما يصل إلى 3000 عنصر من الجيش الوطني الصومالي منذ عام 2023، إضافة إلى توفير تدريب متخصص في مجال مكافحة الإرهاب لمجموعات من خمسين عنصرًا أمنيًا من قوات الأمن الصومالية. كما قدمت تدريبًا مشابهًا في إطار برنامج تطوير وحدة الشرطة العسكرية يضم ما بين 3500 و4500 عنصر، بتمويل إماراتي.

 

وإذا ما تم المضي قدماً وقامت القاهرة بنشر القوات المصرية المتفق عليها في الصومال، فإن 10 آلاف جندي مصري سيدخلون البلاد، وسيكون نصفهم مكلف بالعمل ضمن “بعثة الاتحاد الإفريقي لدعم وتحقيق الاستقرار في الصومال”. وسيشكل ذلك أكبر دعم عسكري مصري للصومال حتى الآن، وأكبر عملية انتشار خارجي لمصر منذ حرب الخليج عام 1991.خاتمة

 

إن تحول مصر إلى صمام أمان إقليمي لم يكن صدفة، بل نتيجة رؤية استراتيجية متكاملة تمزج بين الاستقرار الداخلي والفاعلية الخارجية، وبين الصلابة الأمنية والدبلوماسية الهادئة.

 

واليوم، بينما تتقاطع الأزمات في الشرق الأوسط، تبقى مصر بثقلها الجغرافي والسياسي والاقتصادي الركيزة الأساسية لاستمرار التوازن الإقليمي، والدولة الوحيدة التي ما زالت قادرة على الجمع بين الأمن والسلام، بين الواقعية والريادة، وبين الوطنية والانفتاح.

 

 

الدكتور عادل عامر

 

دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي

 

ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري

 

وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للد

راسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى