مقالات الرأي

الدكتور عادل عامر يكتب:”تركيا تفتح الباب أمام تعديل الدستور”

بقلم: الدكتور عادل عامر

تبدو أنقرة، اليوم، أمام مفترق طرق تاريخي. فإما المضي في حل سياسي شامل للقضية الكردية قد يتطلب مراجعة جذرية لبنية الدولة الدستورية، أو العودة إلى دائرة الصراع والتهميش.

وفي ظل تحولات إقليمية ودولية كبيرة، قد تكون هذه الفرصة الأخيرة لفتح صفحة جديدة مع الأكراد، وإنهاء واحدة من أطول النزاعات في تاريخ الجمهورية التركية. تعيش تركيا لحظة مفصلية في مسار صراعها مع التنظيمات المسلحة بعد إعلان حزب العمال الكردستاني تخليه عن السلاح وحل نفسه ذاتيا، في خطوة وصفت بالتاريخية بعد عقود من المواجهات الدامية.

وسارع البرلمان التركي إلى اتخاذ إجراءات تشريعية لتأطير المرحلة الجديدة، حيث شُكلت لجنة خاصة لمتابعة عملية الحل ونزع السلاح ضمن مبادرة حكومية تحمل شعار “تركيا خالية من الإرهاب“.

وتتمثل مهمة اللجنة في وضع الأساس القانوني الكفيل بضمان انسياب العملية تحت سقف القانون، وسط تأكيدات رسمية على أن ما يجري يمثل فرصة تاريخية لتحقيق سلام شامل بعد نزاع استمر لأكثر من أربعة عقود.

شرعت أنقرة في إعداد مشروع قانون مستقل يضع أساسا قانونيا واضحا للتعامل مع من تصفها بـ “التنظيمات الإرهابية” التي تختار حل نفسها طوعا والتخلي عن السلاح.

وبخلاف الاكتفاء بإجراء تعديلات على قوانين مكافحة الإرهاب النافذة، ارتأت الحكومة صياغة قانون شامل يُواكب هذه المرحلة الاستثنائية في تاريخ البلاد الحديث. فالمنظومة الجنائية القائمة تفتقر إلى نصوص تنظم رسميا كيفية التعاطي مع تفكيك منظمة مسلحة ذاتيا، رغم وجود تعديلات سابقة سمحت بتخفيف العقوبات على من يسلمون أنفسهم طوعا.

ومن هنا جاء المشروع الجديد لسد هذه الفجوة التشريعية عبر وضع إطار موحد ينطبق على حالة حزب العمال الكردستاني وأي تنظيم مماثل قد يعلن نبذه للعنف مستقبلا.

ووصفت وسائل الإعلام المقربة من الحكومة هذه المبادرة بأنها “خطوة تاريخية” من شأنها فتح الباب أمام طي صفحة العنف والانطلاق نحو مصالحة مجتمعية شاملة. وتتمثل مهامها الرئيسية في التحقق من تفكيك التنظيم وتوثيق تسليم الأسلحة بالتنسيق مع قوات الأمن، بما يضمن أن يكون نزع السلاح كاملا ونهائيا.

يضع المشروع الجديد آليات واضحة للتعامل مع أعضاء التنظيمات التي تعلن تخليها عن العنف. ووفق ما رشح في وسائل الإعلام المقربة من الحكومة، سيصنف التشريع الجديد تنظيما مثل العمال الكردستاني كـ “منظمة إرهابية في طور الانحلال ونزع السلاح”، وهو توصيف يمنحها وضعا قانونيا خاصا يفتح الباب أمام إجراءات استثنائية. وتتضمن أبرز بنوده إعفاء عناصر التنظيم الذين يثبت تخليهم عن السلاح من الملاحقة بتهمة الانتماء لتنظيم “إرهابي”، مع استثناء صارم لمرتكبي الجرائم الكبرى كالهجمات الدموية والاغتيالات، الذين ستستمر محاكمتهم بشكل فردي. وبهذا التوازن تسعى الحكومة إلى الجمع بين تحقيق العدالة ومقتضيات المصالحة، بتشجيع العائدين على الاندماج مجددا، “دون السماح بالإفلات من العقاب لمن تورطوا في سفك الدماء“.

كما يوفر المشروع آلية موحدة لإعادة إدماج المقاتلين السابقين في المجتمع، تبدأ من التحقق الرسمي من نبذهم النشاط المسلح، وصولا إلى تنظيم عودتهم قانونيا إلى البلاد، وتوفير خطط للتأهيل النفسي والمهني، وتسهيل فرص التعليم والعمل، بل والنظر في إعفائهم من الخدمة العسكرية عند الضرورة. وتشير التسريبات إلى أن القانون قد يتضمن مراجعة للعقوبات المشددة في “قوانين الإرهاب” الحالية بما يسمح بتهيئة بيئة تشريعية أكثر مرونة للعائدين. وسيكون جهاز المخابرات الوطني شريكا رئيسيا في متابعة التنفيذ ميدانيا ورفع تقارير دورية للجنة البرلمانية حول التقدم في تفكيك التنظيم.

غير أن البند الأكثر حساسية في المشروع يتمثل في احتمال الإفراج عن عدد من السجناء المرتبطين بالصراع، وفي مقدمتهم سجناء سياسيون أكراد؛ فقد شدد حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، الشريك الكردي في العملية، على ضرورة سن قانون يتيح عودة مقاتلي الحزب وإدماجهم بعد إلقاء السلاح، مع تعديل قوانين التنفيذ لتمكين الإفراج عن المرضى والمعتقلين السياسيين ممن لم يثبت تورطهم في أعمال عنف.

أن إقرار القانون وتنفيذه بنجاح سيعيد رسم موازين القوى السياسية في تركيا، فالحكومة -وبالأخص الرئيس رجب طيب أردوغان– ستسجل إنجازا سياسيا كبيرا إذا نجحت في إنهاء الصراع المسلح، وهو ما قد يعزز حضورها في المناطق الكردية ويمنحها رصيدا انتخابيا إضافيا.

أما المعارضة، فيجدها تورال أمام معادلة معقدة، فهي مضطرة إلى دعم مسار السلام من جهة، لكنها قد تستغل أي تعثر أو إخفاق في تطبيق القانون لتوجيه اتهامات للحكومة، سواء بالتساهل مع “الإرهابيين” أو بالفشل في إدارة العملية.

مع دعوة زعيم الحركة القومية التركية دولت بهجلي إلى إقرار دستور جديد في تركيا، تبدو الحياة السياسية في تركيا وكأنها ستدخل استقطابا و”دوامة” جديدة، أساسها انقسام مختلف الأحزاب الرئيسة في البلاد حول هذا المشروع، وتباين أشكال تقاطعاتها، بسبب اختلاف مطالبها ورؤاها حول الدستور، وطبيعة أزماتها الداخلية التنظيمية، وتطلعاتها المستقبلية لدورها.

تأتي دعوة بهجلي، والذي يُعتبر شريكا للرئيس أردوغان في التحالف الحاكم، ومُعبرا تقليديا عن “الدولة العميقة” في تركيا، في ظل أزمة سياسية وأمنية حادة في البلاد. فالمظاهرات شبه اليومية ما تزال قائمة في مختلف المدن الرئيسة من البلاد، تنديدا باعتقال رئيس بلدية إسطنبول ومُرشح أكبر أحزاب المعارضة للانتخابات الرئاسية القادمة أكرم إمام أوغلو. وعقب النداء الاستثنائي الذي وجهه زعيم حزب “العمال الكردستاني” عبد الله أوجلان لمقاتلي حزبه، طالبا منهم وضع السلاح وتفكيك الحزب، حيث ما تزال الخطوات العملية لتنفيذ مثل تلك العملية في بداياتها.

 أغلب آراء المحللين المتابعين للشأن التركي، تقول إن إمكانية إقرار دستور جديد لتركيا، مرتبط بقدرة هذا الدستور على تلبية حاجات القوى السياسية الرئيسة في البلاد، حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، وحزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” المؤيد لحقوق الأكراد، وإلى جانبهم حزبا المعارضة الرئيسان، “الشعب الجمهوري” (الأتاتوركي)، وحزب “الخير” القومي.

فحسب السياق التاريخي، سيكون هذا الدستور الجديد، لو أُقر، أول دستور بهوية مدنية تم إقراره عبر البرلمان. فمختلف الدساتير التركية السابقة أُقرت عقب انقلابات عسكرية، وحسب إرادة وتطلعات الانقلابيين ومؤسستهم العسكرية. الدستور الأول وضعه مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، عقب الانتصار في الحرب مع اليونان وإعلان النظام الجمهوري.

 أما دستور عام 1961 فقد أقرته “لجنة الوحدة الوطنية”، المؤلفة من 38 شخصا، بقيادة الجنرال جمال غورسيل، الذي قاد انقلابا على الحُكم الديمقراطي قبل سنة واحدة فحسب، وأعدم رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس بعد شهور قليلة. والدستور الحالي بدوره أُقر عام 1982، بإرادة تامة من الجنرال كنعان أفرين، قائد انقلاب عام 1980، ورئيس الجمهورية فيما بعد.

المضمون المدني/البرلماني الذي من المفترض أن يتضمنه الدستور المحتمل، لا يعني أن توافقا سياسيا سيحدث بشأنه بشكل آلي، حسبما يشرح الباحث المختص رمضان دنيز في مقابلة مع “المجلة”، ويضيف مفصلا: “البرلمان الحالي يتألف من 600 عضو، وإقرار الدستور عبر البرلمان دون استفتاء، يحتاج إلى 400 صوت برلماني، وهو ما لا يملكه التحالف الحاكم،

 حيث إن لحزب “العدالة والتنمية” 263 نائبا، ولـ”الحركة القومية” 50 نائبا. أي إنهم يحتاجون إلى قرابة 87 صوتا إضافيا من قوى المعارضة، وهو أمر سيتحقق إما بالتوافق مع حزب “الشعب الجمهوري”، لأنه يملك 129 نائبا في البرلمان، وهذا أمر صعب جدا في ظل الشرخ السياسي الحاد بين الطرفين راهنا، أو سيحتاج إلى موافقة حزبي “المساواة وديمقراطية الشعوب” (57 نائبا) وحزب “الخيّر” (37 نائبا) معا، وهو أمر شبه مستحيل، للتناقضات الشديدة بينهما“.

وعلى ما يبدو أن هناك ثمة أهداف سياسية واضحة بالنسبة للحزبين الحاكمين من هذا الطرح. فالرئيس أردوغان تملؤه الرغبة في إعادة بلورة الحياة السياسية ليفتح المجال التشريعي لإعادة ترشيح نفسه في أية انتخابات رئاسية قادمة، حيث يعيش دورته الأخيرة، حسب الدستور الحالي، وخروجه الشخصي من المشهد خلال انتخابات عام 2028، سيجعل من إمكانية بقاء حزب “العدالة والتنمية” في صدارة الحياة السياسية أمرا شبه مستحيل.

زر الذهاب إلى الأعلى