الدكتور عادل عامر يكتب : الحرب التجارية استعمار اقتصادي عابر للحدود

بقلم : الدكتور عادل عامر
الحرب التجارية، في جوهرها، هي صراع اقتصادي يتم فيه فرض حواجز تجارية أو رسوم جمركية على بعضها البعض من قبل دولتين أو أكثر، بهدف حماية صناعاتهم المحلية أو تحقيق مزايا اقتصادية. يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال الاستعمار الاقتصادي العابر للحدود، حيث تخلق حالة من عدم المساواة في المنافسة وتؤثر على تطور البلدان المتضررة.
إنّ الاضطرابات التي تسبّب بها ترامب في الاقتصاد العالمي خطيرة، وقد تبدو جديدة، لكنّ الوضع الراهن ليس بجديد. ولا يحتاج المرء للنظر إلى الوراء بعيداً ليرى ما قد تفعله رسوم الرئيس الجمركية بالعالم، فالمشكلات التي يواجهها الاقتصاد العالمي اليوم تُعيد إلى الأذهان بعض المشكلات التي كانت قائمة قبل إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995، وأخرى كانت قائمة حتى قبل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الغات) لعام 1947، وهي الاتفاقية التي سبقت منظمة التجارة العالمية.
وإلى أن ساعدت هذه الهيئات في توحيد معايير التجارة، كانت الدول تستخدم التجارة غالباً لانتزاع تنازلات من بعضها البعض. وقد خلقت هذه الدول واستغلت ما يُطلق عليه الاقتصاديون “مشكلات التعطيل”: عندما تستثمر دولة أو شركة في دولة أخرى وتعتمد الأرباح على استمرار العلاقة بين الطرفين.
وللتوضيح، قد تُنشئ دولة معيّنة بنية تحتية نفطية في دولة أخرى، بحيث يكون المورّد وحده قادراً على صيانتها أو تشغيلها. وبمجرّد إبرام مثل هذه الصفقات، تستطيع الدول القوية إرغام شركائها على تغيير شروط الاتفاقية ببساطة باستخدام لغة التهديد.
قد تستفيد الدول من استخدام التجارة كسلاح على المدى المنظور، لكن على المدى الطويل، تُفاقم الحروب التجارية وضع الجميع تقريباً. فعندما تلجأ الدول باستمرار إلى استخدام النفوذ الاقتصادي لتأمين تنازلات من شركائها الضعفاء، يتراجع معدل الاستثمار والنمو الاقتصادي، وتزيد حدّة التقلّبات السياسية.
والدول التي تغتاظ من الإكراه الاقتصادي، تلجأ في بعض الأحيان إلى جيوشها للردّ، والدول التي كانت تتعاون سابقاً بفضل علاقاتها التجارية تتحوّل إلى دول متنافسة، حتى الحلفاء المقرّبون يتباعدون. قد يظنّ ترامب أنّ نظام الرسوم الجمركية الخاصّ به سيجعل الولايات المتحدة أكثر ثراءً وأماناً وقوة، لكنّ التاريخ يُشير إلى أنّ الوضع سيتخذ منحى معاكساً تماماً.
تقف الدول النامية على خط نار الحرب التجارية، رغم أنها لم تُطلق رصاصة واحدة في تلك الحرب المستعرة، فبينما تتسابق القوى الكبرى على فرض الرسوم والقيود، تدفع الاقتصادات الضعيفة ثمناً باهظاً نتيجة تباطؤ التجارة العالمية، وتقلّص الاستثمارات، واضطراب سلاسل التوريد. دعت الصين إلى مناقشة في منظمة التجارة العالمية بشأن «الاضطرابات التجارية»، وكيف ينبغي للمنظمة أن تستجيب، في إشارة واضحة إلى الرسوم الجمركية التي فرضتها أو هددت بها الولايات المتحدة.
وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عن رسوم جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات الصينية، مما دفع بكين إلى الرد برسوم جمركية انتقامية، وتقديم دعوى نزاع لمنظمة التجارة العالمية ضد واشنطن، بينما قد يكون اختباراً مبكراً لموقف ترمب تجاه المؤسسة الدولية. لا شك أنه مع دخول عصر العولمة، ظهرت إدارة دولية جديدة عقب دخول لاعبين جدد من الدول والتكتلات الاقتصادية الدولية، وهنا نشأ ما يمكن أن نسميه النظام الاقتصادي الدولي الجديد وخرج من زيّه التقليدي، المرتبط بالتجارة المحدودة نسبيًا، والعلاقات المنغلقة من حيث الشكل والمضمون، إلى الانفتاح الدولي الذي نراه اليوم، وتعد المرحلة الأهم لبناء هذا النظام الجديد تلك التى زامنت الحرب العالمية الثانية.
وستكون مناقشة منظمة التجارة العالمية، المقرر أن تتم في وقت متأخر من يوم الثلاثاء، أو في وقت مبكر من يوم الأربعاء، هي المرة الأولى التي يتم فيها تناول التوترات التجارية المزدادة رسمياً على جدول أعمال أعلى هيئة لصنع القرار في المنظمة الدولية
. وقال مسؤول في بعثة الصين لدى منظمة التجارة العالمية، إن المندوب الصيني من المقرر أن يدلي ببيان يعبر فيه عن «مخاوف قوية» بشأن التدابير الأحادية والحمائية، دون تسمية دولة، ويدعو الأعضاء إلى العمل لمواجهة مثل هذه الخطوات. وحثت المديرة العامة للمنظمة نغوزي أوكونجو إيويالا، حتى الآن، أعضاء منظمة التجارة العالمية، البالغ عددهم 166 عضواً، على الامتناع عن الرد في حالة فرض التعريفات الجمركية، من أجل تجنب الحروب التجارية «الكارثية».
وكان من نتاج التوسع الدولي في التجارة، ظهور المستعمرات وحركة الاستيطان الأوروبي في العالم الجديد وفي القارة الآسيوية والأفريقية بعد الأمريكيتين. هذا التحرك بدوره أدى إلى ظهور عدد من العوامل التي أثرت مباشرة في تغيير دفة النظام الاقتصادي في الدول الأوروبية ذاتها، فتحوّلت تدريجيًا من النظام الاقتصادي الجامد والمحدود إلى النظام الرأسمالي، خصوصًا بعد تراكم رأس المال الناجم عن التجارة من ناحية، وتدفق الذهب والفضة والمعادن النفيسة من المستعمرات الجديدة.
نفهم من ذلك أن تلك كانت النقطة التى من خلالها سيخطو الاقتصاد العالمى نحو مرحلته الجديدة، والتى ستظهر ملامحها بعدها بعقود، فنجد أنه بالرغم من إعادة تمركز القوة فى الدول المسيطرة مرة أخرى فى منتصف التسعينيات، إلا أنه تجاوز فكرة السيطرة المطلقة عالميا، وظهرت أثار البناء الاقتصادى لدول الهامش أو الدول النامية فى إعادة صياغة تلك العلاقات الاقتصادية، وخلق موازين جديدة، فضلا عن أن هذا البناء الاقتصادى العالمى تحكمت فى صياغته الصراعات السياسية القائمة وقتها ووصول الإمبراطوريتين الاستعماريتين الأكبر إلى فصل النهاية ونتائج الحربين العالميتين وبداية تصاعد السيطرة الأمريكية والقوة السوفيتية، وتنامى حركات التحرر الوطنى فى البلدان النامية، وهو بدوره ما سيتحكم فى صياغة شكل النظام الاقتصادي العالمي
إن أولى ضحايا هذه الحرب التجارية ستكون الأسعار. إن زيادة التعريفات الجمركية تعني ببساطة ارتفاع تكاليف السلع المستوردة، الأمر الذي يؤدي بشكل مباشر إلى تحميل المستهلكين في كلا البلدين أعباءً مالية إضافية. سيجد المستهلك الأمريكي نفسه مضطرًا لدفع المزيد مقابل الإلكترونيات والألعاب والعديد من المنتجات الأخرى القادمة من الصين، مما سيؤثر سلبًا على ميزانيته الشهرية ويقلل من استهلاكه للسلع غير الأساسية. من ناحية أخرى، سترتفع تكاليف فول الصويا والطائرات والأدوية الأمريكية بالنسبة للمستهلك الصيني، ما قد يدفعهم للبحث عن بدائل محلية أو لدول أخرى، مما يضر بالصادرات الأمريكية. ستغذي هذه الزيادات التضخم، مما يؤدي إلى تقليص القوة الشرائية للأفراد في كلا البلدين، وقد ينتج عن ذلك زيادة في الاستياء الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى احتمالية تراجع النمو الاقتصادي مع مرور الوقت.
ستواجه الشركات تحديات كبيرة نتيجة لذلك. فمع ارتفاع تكلفة الاستيراد، ستجد هذه الشركات صعوبة في الحفاظ على هوامش أرباحها، مما قد يؤدي إلى تآكل أرباحها على المدى الطويل. قد تتطلب بعض الشركات نقل عملياتها أو البحث عن موردين جدد، مما يشكل عبئًا ماليًا وجهدًا كبيرين، وقد يتطلب هذا الأمر إعادة هيكلة استراتيجياتها التشغيلية والتوسع في البحث والتطوير. وبالنسبة للشركات التي تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى أحد البلدين المتنازعين، فإنها ستواجه خطر فقدان أسواقها أو تقليص حجم مبيعاتها بشكل كبير، مما قد ينعكس سلبًا على قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية ويؤثر على سلسلة توريدها بشكل عام. إن هذه الظروف قد تدفع الشركات إلى إعادة تقييم استثماراتها وتكييف نماذج أعمالها للتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية العالمية.
اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية:
لا تقتصر تداعيات الحرب التجارية على حدود التعريفات المباشرة فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيرات أوسع على الاقتصادات العالمية. فالاقتصاد العالمي يستند إلى سلاسل إمداد معقدة ومتداخلة تشكل العصب الحيوي للتجارة الدولية. هذه التعريفات تُهدد بتفكيك تلك السلاسل، إذ تواجه الشركات صعوبات في الحصول على المكونات والمنتجات اللازمة في الوقت المحدد وبالتكلفة المناسبة، مما يعيق قدرتها على التنافس في الأسواق العالمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الاضطراب سيؤثر على كفاءة الإنتاج ويؤدي إلى زيادة التكاليف على المستوى العالمي، مما يؤدي بدوره إلى تقليل الأرباح وزيادة أسعار السلع للمستهلكين. في ظل هذه الظروف، قد تضطر الشركات إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الإنتاجية والتوزيعية، مما يخلق حالة من عدم اليقين الاقتصادي قد تضر بالنمو والاستقرار على المدى الطويل.
الدكتور عادل عامر
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا