الدكتور عادل عامر يكتب : زمن انهيار الأمم المتحدة: المكان والوظيفة والأهداف
بقلم : الدكتور عادل عامر
منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945، جاءت بنية هذه المؤسسة الدولية انعكاساً مباشراً لموازين القوى العالمية التي كانت سائدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فقد احتكر كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي آنذاك قدرات سياسية ودبلوماسية وعسكرية هائلة، وهو ما فرض نفسه على أداء المنظمة، خصوصاً في مجلس الأمن الذي كثيراً ما عجز عن اتخاذ قرارات حاسمة في قضايا لا يرغب أحد القطبين في حسمها عبر الأطر الأممية.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، انفتحت أمام الولايات المتحدة فرص واسعة أعادت بواسطتها تشكيل النظام الدولي على نحو يُرسّخ أحادية القطبية ويضمن لها الانفراد بالقيادة العالمية. وقد كان أبرز أدواتها في ذلك هو توظيف الأمم المتحدة، ولا سيما مجلس الأمن، في منح الشرعية الدولية لسياساتها وتحركاتها المختلفة، وفي تقديم دعم سياسي يرسّخ نفوذها في القضايا الإقليمية والدولية.
لقد سعت واشنطن إلى الدفع نحو دور دولي فاعل للأمم المتحدة، ليس بهدف تعزيز النظام الدولي المتعدد الأطراف، بل لضمان جعل المنظمة قناة مساندة للدبلوماسية الأمريكية ومنسجمة مع أهدافها الاستراتيجية. ومن هنا، أصبح توظيف الولايات المتحدة للأمم المتحدة إحدى أهم الآليات لتثبيت الهيمنة الأمريكية وإضفاء غطاء قانوني–دولي على الكثير من قراراتها وسياساتها.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك التعامل الأمريكي مع الأزمة السودانية، والذي عكس استخداماً مكثّفاً للآليات الأممية لتوجيه مخرجاتها بما يتناسب مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
أولاً: التحديات التي تواجه وظيفة الأمم المتحدة
1. الجمود داخل مجلس الأمن
يبقى مجلس الأمن المحور المركزي الذي تُناط به مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين. غير أن حق النقض (الفيتو) الممنوح للدول الخمس الدائمة العضوية يخلق حالة شلل متكررة في مواجهة النزاعات الكبرى، خصوصاً عندما تتداخل مصالح القوى العظمى وتتناقض.
2. تغيّر طبيعة النزاعات المعاصرة
لم تعد الحروب بين الدول هي الشكل السائد للصراعات، بل حلّت محلها النزاعات الأهلية، والاقتتال الداخلي، والصراعات ذات الطبيعة العرقية والدينية، وصعود ظاهرة الإرهاب العالمي. هذه التحولات جعلت عمليات حفظ السلام أكثر تعقيداً وأعلى تكلفة وأكثر خطراً على قواتها.
3. ازدواجية المعايير وتآكل المصداقية
تتعرض الأمم المتحدة لانتقادات واسعة بسبب تطبيقها غير المتوازن لمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي. وتتأثر مواقفها، في كثير من الأحيان، بأجندات الدول الكبرى، مما أفقدها جزءاً كبيراً من ثقة الدول النامية.
4. عدم القدرة على منع النزاعات
على الرغم من أن منع الحرب وتحقيق السلم كان أحد أهم أسباب نشأة المنظمة، إلا أنها فشلت في وقف العديد من المآسي الإنسانية الكبرى والحروب التي أودت بحياة الملايين.
ثانياً: التحديات المتعلقة بالمكانة والهيكلية
1. الدعوات لإصلاح مجلس الأمن
لا يزال الهيكل الأممي كما وُضع عام 1945، غير متوافق مع موازين القوى الحالية. ولذلك تتصاعد المطالب الدولية، خاصة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بضرورة توسيع مجلس الأمن ليصبح أكثر عدالة وتمثيلاً.
2. أزمة التمويل
تعتمد الأمم المتحدة على مساهمات الدول الأعضاء، ما يجعلها عرضة للضغوط المالية والسياسية. وقد حذّر الأمين العام مراراً من مخاطر “الأزمة المالية” التي تهدد برامج المنظمة الأساسية.
3. البيروقراطية وترهّل الجهاز الإداري
يتسم الجهاز الإداري للأمم المتحدة بالبطء والتعقيد، مما يؤخر عمليات اتخاذ القرار ويقلل من فاعليتها في مواجهة الأزمات الطارئة.
ثالثاً: الولايات المتحدة والشرعية الدولية بعد الحرب الباردة
مع نهاية الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى دمج الأمم المتحدة في استراتيجيتها الكونية باعتبارها الأداة الشرعية الأولى في العالم. وقد استخدمت واشنطن مجلس الأمن لمنح الغطاء القانوني لتحركاتها العسكرية والسياسية، كما حدث في حرب الخليج عام 1991، التي قال فيها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في خطابه أمام الكونغرس:
“نحن اليوم أمام عالم جديد… عالم تستطيع فيه الأمم المتحدة، المتحررة من شلل الحرب الباردة، أن تحقق الرؤية التاريخية لمؤسسيها.”
وبهذا، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة مفاهيم السيادة والتدخل الدولي والشرعية، وتوظيفها لتبرير تدخلاتها في العديد من مناطق العالم.
وقد لخص الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس غالي هذا الوضع بقوله:
“لقد أخطأت عندما تصورت أن الأمم المتحدة ستتمكن بعد الحرب الباردة من لعب دور قيادي مستقل… فالولايات المتحدة أرادت أن تكون القطب الأوحد، وأن تكون الأمم المتحدة خاضعة لإرادتها.”
وتجلّى ذلك في سياسات المعايير المزدوجة، مثل:
الاستخدام المكثف لمجلس الأمن ضد العراق بعد عام 1990،
مقابل تجاهل المجلس في ملف التسوية العربية–الإسرائيلية عام 1993.
وهكذا أصبحت قرارات المنظمة محكومة، في كثير من الأحيان، بمصالح القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تمكنت من تحويل مجلس الأمن إلى أداة تخدم أهدافها الجيوسياسية.
خاتمة
الأمم المتحدة ليست على وشك الانهيار المادي، لكنها تواجه أزمة بنيوية وفكرية عميقة تمس مصداقيتها، وفاعليتها، وحيادها. وفي ظل عالم يتجه نحو التعددية القطبية، فإن المنظمة تحتاج إلى إصلاح جذري يعيد إليها دورها الطبيعي كحارس للسلم الدولي، لا كأداة تخضع لموازين القوى المتغيرة.
الدكتور عادل عامر
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
مدير مركز المصريين للدراسات بمصر
محكّم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم التجاري الدولي
عضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوروبي للدراسات السياسية والاستراتيجية – فرنسا
01118984318
01555926548
01024975371
01277691834




