السيد خلاف يكتب : إغتيال استراتيجي
سقوط طائرة رئيس أركان الجيش الليبي..هل كانت رسالة من تل أبيب إلى أنقرة في حرب الغاز والنفوذ؟
من غير المستبعد، وفق معايير التحليل الاستخباري وتقدير الموقف الاستراتيجي، أن يكون سقوط طائرة رئيس أركان الجيش الليبي محمد علي الحداد وخمسة من مرافقيه، عقب زيارة عسكرية رسمية إلى تركيا، عملًا مدبّرًا يتجاوز إطار “الحادث الفني”، ويدخل في نطاق حروب الظل وتبادل الرسائل الإقليمية، لا سيما في ظل التصعيد الإعلامي والسياسي المتصاعد بين إسرائيل وتركيا، والتحالف العسكري الجديد الذي يقوده بنيامين نتنياهو مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط .
في عالم الاستخبارات، لا تُقرأ حوادث الطائرات التي تطال شخصيات عسكرية محورية باعتبارها وقائع عرضية، بل بوصفها أحداثًا مركّبة تتقاطع فيها المصالح، والطاقة، والنفوذ، والتوقيت .
وهنا نناقش الحدث بهدوء وفق النقاط التالية:
-أولًا:الحادث لماذا يخرج عن نطاق”الصدفة”؟
جاء سقوط الطائرة في لحظة شديدة الحساسية إقليميًا متزامن مع تصعيد سياسي وإعلامي علني بين أنقرة وتل أبيب،واشتداد الصراع على غاز شرق المتوسط،وسباق محموم لإعادة رسم خرائط النفوذ البحري،وتحركات تركية مكثفة في ليبيا وأفريقيا،والأهم أن الضحية ليست قائدًا ميدانيًا عاديًا،بل الرجل العسكري الأقوى في ليبيا وفق توصيف دوائر إقليمية،وهو ما يجعل فرضية “العطل الفني البحت” ضعيفة استخباريًا.
-ثانيًا:محمد علي الحداد يصنف بأنه هدف ذو قيمة استراتيجية من منظوراستخباري إسرائيلي، ويُنظر إليه “الحداد” باعتباره مهندس التمدد العسكري التركي داخل ليبيا،والضامن الميداني للاتفاقيات التركية -الليبية،وداعمًا رئيسيًا للمطالب التركية بملكية مساحات بحرية في المتوسط،بالإضافة إلى أنه
حلقة محورية في ربط ليبيا بالمشروع التركي في شرق المتوسط والعمق الإفريقي، وبالتالي،لم يكن الرجل مجرد رئيس أركان، بل فاعلًا استراتيجيًا في معركة الغاز والنفوذ.
-ثالثًا:اللافت فيما كتبته المواقع العبرية أنها تناولت خبر موته بمنطق التقييم الأمني لا الحياد الخبري،حيث جاء في أحد التعليقات:”لمن يسأل إذا كان هذا جيدًا أم سيئًا لإسرائيل،
رئيس الأركان الذي يبدو أن طائرته تحطمت يساعدأردوغان وتركيا على ترسيخ وجودها في ليبيا وأفريقيا، كما يساعد تركيا على تنفيذ مطالبها بملكية مساحة بحرية في البحر المتوسط التي ترغب تركيا في البحث عن الغاز فيها”.
هذا الخطاب لا يمكن اعتباره رأيًا عابرًا،بل انعكاسًا للمنظور الأمني الإسرائيلي الذي يبرر الأفعال وفق منطق تحييد “الأدوار الخطرة”.
-رابعًا:الغازجوهر الصراع الحقيقي،والقضية هنا لا تتعلق بليبيا وحدها،بل بمن يملك السيطرة على مستقبل الطاقة في شرق المتوسط .
إسرائيل مثلا أعادت ترتيب تحالفاتها مع اليونان وقبرص ،وتسعى لمحاصرة المشروع التركي بحريًا،وتعتبرالاتفاقيات التركية – الليبية تهديدًا مباشرًا لمصالحها في غاز المتوسط .
وفي المقابل ترى تركيا أن ليبيا هي بوابتها الاستراتيجية لكسر العزلة البحرية،وأن أي تراجع في نفوذها العسكري هناك يمثل خسارة جيوسياسية كبرى،ومن هنا،يصبح استهداف”الأدوار” دون إعلان استهداف الأشخاص جزءًا أصيلًا من الصراع.
-خامسًا: لماذا حوادث الطائرات تحديدًا؟ في أدبيات المخابرات حوادث الطيران تُعد من أنظف أدوات العمليات الرمادية،كونها لا تترك بصمات سياسية واضحة،ويسهل إغلاق ملفاتها تحت بند”العطل الفني”وغالبًا ما تُدفن أسرارها مع الحطام ،ولهذا، فإن كثيرًا من حوادث الطائرات المدبّرة لا تُكشف حقيقتها إلا بعد سنوات طويلة، أولا تُكشف أبدًا.
-سادسًا: تقدير رد الفعل التركي قراءة استخباراتية تشير إلى أنه من المرجح أن تتعامل أنقرة مع الحادث وفق مبدأ
خفض التصعيد العلني مقابل تعزيز الردع غير المعلن.
والسيناريو الأكثر ترجيحًا يشمل:مراجعة شاملة لأمن القيادات العسكرية،وتشديد الإجراءات الاستخبارية داخل ليبيا،وتوسيع دائرة الشك في حجم الاختراقات الإقليمية،
وتصعيد غير مباشر ضد المصالح الإسرائيلية في ساحات أخرى.
وتركيا من جانبها تدرك أن الاتهام المباشر قد يقود إلى مواجهة مفتوحة،لكنها في الوقت ذاته لن تتعامل مع الحادث بوصفه واقعة عابرة.
-سابعًا: السيناريوهات القادمة في ليبيا في قراءة استخباراتية تقول أن غياب محمد علي الحداد يفتح الباب أمام مرحلة إعادة ضبط دقيقة داخل المشهد الليبي علي سيناريوهات أربعة:
-السيناريو الأول: إعادة تموضع تركي محسوب
تعزيز الوجود العسكري والاستخباري التركي داخل ليبيا،مع الدفع بشخصيات أكثر تشددًا في حماية الاتفاقيات الأمنية والبحرية، لضمان عدم حدوث فراغ استراتيجي.
-السيناريو الثاني: صراع نفوذ داخلي صامت،وتنافس غير معلن بين مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية الليبية،قد ينعكس في ارتباك أمني أو تباطؤ في القرار،دون انفجار مباشر.
-السيناريو الثالث:تدخلات إقليمية عبر الوكلاء واستغلال أطراف إقليمية ودولية للحادث لإعادة تنشيط أدواتها داخل ليبيا،ما يعيد البلاد إلى مربع الصراع بالوكالة.
-السيناريو الرابع: تثبيت هش للوضع القائم،واحتواء الصدمة مؤقتًا دون تغيير جوهري في موازين القوى،مع بقاء الوضع قابلًا للانفجار في أي لحظة.
ثامنًا:التداعيات على الأمن القومي المصري خاصة وأن مصر تقف في قلب هذه المعادلة،لا على هامشها، كون
القاهرة لاعب رئيسي في منتدى غاز شرق المتوسط ، وشريك استراتيجي لإسرائيل في ملف الطاقة.
وفي الوقت ذاته، تعتبر التمدد التركي في ليبيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي،وأن أي تصعيد تركي-إسرائيلي ينعكس مباشرة على الساحة الليبية، ويزيد من تعقيد المشهد على الحدود الغربية لمصر.
ويفرض على القاهرة تعزيز
جاهزيتها الأمنية،وتوازنها الدبلوماسي،وحساباتها الدقيقة بين الطاقة والأمن،ومصرهنا ليست مراقبًا،بل صانع توازن إقليمي.
و بجانب الفرضية الإسرائيلية ، تبرز روسيا كفرضية فرعية، ليس بوصفها منفذًا مباشرًا محتملًا،بل باعتبارها طرفًا مراقبًا ومستفيدًا محتملًا من تداعيات الحادث.
مؤكد أن موسكو تنظربقلق إلى تعاظم النفوذ التركي في ليبيا ، وتعتبر بعض القيادات العسكرية المقرّبة من أنقرة عائقًا أمام استعادة نفوذها، لكنها في الوقت ذاته تتجنب الصدام المباشرمع تركيا، وتفضّل إدارة الخلاف بأسلوب طويل النفس.
والنمط الروسي في ليبيا يعتمد على اختراق النخب وتوظيف الانقسامات الداخلية.
وتسعى روسيا إلى إعادة التموضع التدريجي، وهو ما يجعل سيناريو التنفيذ الروسي المباشر أقل ترجيحًا،مع بقاء احتمال الاستفادة السياسية والأمنية من غياب شخصية بحجم الحداد
وأخيرا لا يوجد حتى الآن دليل قاطع يؤكد أن سقوط الطائرة كان عملية مدبّرة،لكن في عالم الاستخبارات،غياب الدليل لا ينفي الفعل،في ظل التوقيت، والصراع على الغاز،والتحالفات الجديدة،والخطاب العبري،فهذه كلها مؤشرات تجعل فرضية التدبير مرجحة، لا مستبعدة.
والأهم أن شرق المتوسط لم يعد ساحة تفاوض هادئ،بل مسرح صراع مفتوح،تُكتب فيه الرسائل أحيانًا بالحبر..وأحيانًا أخرى في السماء وبالدماء .




