السيد هانى يكتب : أصل القصة فى مكالمة عبدالناصر والقذافى ..!

وجهة نظر .. السيد هانى
مازالت أصداء التسجيل الصوتى .. الذى ظهر مؤخرا لمكالمة هاتفية جرت بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والعقيد الراحل معمر القذافى .. تتردد فى وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة ..
* تباينت الآراء بين من يعتبر ما جاء فى التسجيل .. دليل على “الواقعية السياسية” للرئيس عبدالناصر .. باستعداده للتسوية السياسية .. بعد أن أدرك حقيقة أنه لا يحارب إسرائيل وحدها .. إنما يحارب إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية معا ..
* والبعض الآخر ينفى تماما عن عبدالناصر القبول بالتسوية السياسية مع إسرائيل .. يقولون إن مكالمته مع القذافى جرت فى وقت كان يستعد فيه للحرب .. فكيف يفهم منها انه كان يرغب فى التسوية السياسية! .. ويفسرون ما جاء على لسان عبدالناصر فى التسجيل بأنه كان مجرد “موقف تكتيكى” فقط .. حتى يتمكن من استكمال بناء حائط الصواريخ على الجبهة الأمامية غرب قناة السويس ..
لم أكن أرغب أبدا المشاركة فى هذا الجدال .. ثم رأيت أنه لا يجب الصمت إزاء الكلام الكثير الذى يتم تداوله فى وسائل الإعلام .. خاصة أن معظمه لا يرتكز على الحقائق التاريخية .. إنما يرتكز على “المشاعر العاطفية” تجاه عبدالناصر .. معه .. أو ضده ..!
سأبدأ بالحديث عن قرار مجلس الأمن الدولى .. الذى صدر بالإجماع يوم ٢٢ نوفمبر عام ١٩٦٧ بناء على مشروع تقدم به “اللورد كارادون” المندوب البريطانى لدى الأمم المتحدة ..
هذا القرار ينص فى الفقرة (ب) من المادة الأولى على : “أن تنهى كل الدول حالة الحرب . وأن تحترم وتعترف بسيادة كل دولة فى المنطقة ووحدة أراضيها واستقلالها السياسى وحقها فى العيش فى سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها متحررة من أعمال القوة او التهديد باستخدامها” ..
وكما هو واضح من نص المادة أن القبول بهذا القرار .. يعنى الإعتراف بإسرائيل كدولة فى المنطقة .. بالإضافة إلى المواد الأخرى فى القرار التى تعطى إسرائيل الحق فى حرية الملاحة عبر الممرات المائية الدولية فى المنطقة (وقناة السويس ممر دولى) .. وكذلك إنشاء مناطق منزوعة السلاح ..
لذلك تصدى الوفد المصرى فى الأمم المتحدة بكل قوته لمشروع هذا القرار قبل أن يعتمد من مجلس الأمن .. جرت فى نيويورك معركة دبلوماسية امتدت لحوالى شهرين .. قادها محمود رياض وزير الخارجية فى ذلك الوقت .. ومعه فى الوفد المصرى كل من السفراء اسماعيل فهمى ، ومحمد رياض ، و نبيل العربى ، وعبدالرءوف الريدى ، وعبدالحليم بدوى ، ومحمد البرادعى ، وسيد قاسم المصرى .. بالإضافة طبعا إلى محمد عوض القونى المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة ذلك الوقت ..
أجرى الوفد المصرى اتصالات مكثفة مع سفراء الدول الكبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن .. ولم تحقق الإتصالات النتائج المرجوة منها .. !
يقول السفير عبد الرءوف الريدى فى مذكراته “رحلة العمر” .. صفحة ٢٠٧ : “استشار محمود رياض وزراء الخارجية العرب ، فكان اتجاههم هو قبول القرار وأنه كلما فات الوقت فإن المعروض سيكون أسوأ .. خرج محمود رياض من هذا الإجتماع ، وهو مقتنع أنه لابديل عن الموافقة على هذا القرار .. وكتب رسالة سرية لم يطلع عليها أحدا من معاونيه .. وأرسلها إلى الرئيس عبدالناصر ناصحا بقبول القرار ، وهو ماوافقه عليه الرئيس عبدالناصر” ..!
هكذا .. فى معركة القرار ٢٤٢ .. التى استمرت شهرين داخل أروقة الأمم المتحدة .. منذ بدء اجتماعات الجمعية العامة فى سبتمبر إلى صدور القرار فى ٢٢ نوفمبر ١٩٦٧.. وقفت مصر تخوض المعركة الدبلوماسية وحدها لمنع صدور القرار .. بينما كان موقف وزراء خارجية الدول العربية هو الموافقة على القرار ٢٤٢ ..
هكذا ادرك عبدالناصر منذ نوفمبر ١٩٦٧ .. ان مصر تخوض الصراع وحدها ضد امريكا وإسرائيل ..!
وإنه يجب أن يبنى حساباته على هذا الأساس .. فأعلن موافقته على القرار ٢٤٢ الذى يعطى إسرائيل حق الوجود كدولة فى المنطقة .. تعيش داخل حدود آمنة ومعترف بها ..!
بالتالى .. يمكن القول إن رغبة عبدالناصر فى التسوية السياسية مع إسرائيل بدأت فى نوفمبر ١٩٦٧ بقبوله قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ ..
إسرائيل قبلت بالقرار ٢٤٢ أيضا .. بموجب وثيقة وقعها ابا إيبان وزير خارجية إسرائيل فى ذلك الوقت .. سلمها إلى مبعوث الأمم المتحدة جونار يارنج ..
لكن إسرائيل لم تنفذ ما عليها فى القرار .. وهو الإنسحاب من الأراضى التى احتلتها بالقوة فى عدوان ٥ يونيو ٦٧ .. فبدأ عبدالناصر حرب الإستنزاف فى سبتمبر ١٩٦٨ .. حيث قام الجيش المصرى بقصف مواقع القوات الإسرائيلية شرق قناة السويس وألحق بها خسائر جسيمة .. فردت إسرائيل على ذلك بقصف مواقع مدنية فى العمق المصرى .. حيث قصفت محطة المحولات الكهربائية فى نجع حمادى ، وقناطر نجع حمادى ، وكوبرى قنا .. الأمر الذى دفع الرئيس عبدالناصر إلى أن يطلب من السوفييت إمداده بأسلحة ردع للدفاع عن المدن المصرية .. خاصة صواريخ (سام-٣) التى طلب عبدالناصر إرسال أطقم سوفييتية معها .. إلى أن يتم تدريب قوات مصرية للعمل عليها .. بل وصل الأمر بعبدالناصر إلى أن طلب إسناد مهمة الدفاع الجوى عن مصر إلى قائد سوفييتى ..!
إزاء هذه التطورات .. وجد الأمريكيون أن السوفييت على وشك التدخل بالسلاح والقوات للوقوف إلى جانب مصر .. الأمر الذى سيؤدى بالضرورة إلى تفاقم الوضع فى الشرق الأوسط .. فتحركت الدبلوماسية الأمريكية ، وأعلن وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت ويليام روجرز يوم ٩ ديسمبر ١٩٦٩ .. مبادرته الشهيرة ، التى دعا فيها إسرائيل إلى تطبيق القرار ٢٤٢ والإنسحاب من الأراضى التى احتلتها فى عدوان ٥ يونيو وقال : “نحن نريد أمن إسرائيل وأمن الدول العربية أيضا” ..
* المبادرة احدثت صدمة فى إسرائيل .. وأعربت جولدا مائير عن “خيبة أملها المريرة” .. ووصفت الموقف الأمريكى بأنه “فضيحة وكارثة” .. كما تحرك كسينجر فقضى على مبادرة روجرز فى مهدها ..
سأختصر الأحداث .. وقد ذكرتها بالتفصيل فى كتابى: “د. مهاتير قال لى : اليهود يحكمون العالم” .. وسأقفز إلى مبادرة روجز الثانية التى أعلنها يوم ٢٥ يونيو ١٩٧٠ ..
قصة هذه المبادرة باختصار تعود إلى أن إسرائيل قامت بقصف مصنع أبو زعبل فى الأول من يناير ١٩٧٠ واستشهد فى هذا القصف أكثر من ٧٠ عاملا .. فقام عبدالناصر بزيارة سرية إلى موسكو فى ٢٢ يناير ١٩٧٠ ، وأبلغ السوفييت أنه لا يستطيع الإنتظار إلى يونيو ، وهو موعد تسليم بطاريات الصواريخ (سام-٣) .. خاصة بعد أن وصلت إسرائيل إلى العمق وضربت التجمعات العمالية والسكانية ..
* بعد ٦ ايام فقط من انتهاء زيارة عبدالناصر السرية إلى موسكو .. أرسل أليكسى كوسيجين رئيس وزراء الإتحاد السوفييتى رسالة إلى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون .. دعا فيها إلى ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف هجماتها والإنسحاب من جميع الأراضى العربية المحتلة من أجل إقامة سلام دائم فى الشرق الأوسط .. وقال فى رسالته بوضوح : “إنه إذا استمرت هجمات إسرائيل .. فإن الإتحاد السوفييتى سيكون مضطرا لأن يستوثق من ان الدول العربية تملك تحت تصرفها الوسائل التى تكفل مساعدتها على صد المعتدى المتعجرف بالطريقة المناسبة”..!
* يوم ١٧ مارس ١٩٧٠ .. وصل إلى مصر شحنة كبيرة من الأسلحة السوفييتية المتقدمة .. تتضمن منظومة دفاعية من صواريخ أرض – جو المضادة للطائرات (سام-٣) التى لم يكن الإتحاد السوفييتى قد قدمها من قبل إلى أى دولة فى العالم .. بما فى ذلك فيتنام .. لكن أكثر ما أزعج الأمريكيين هو أن هذه الصواريخ رافقها ١٥٠٠ من الضباط والجنود والفنيين السوفييت .. وقد استمر وصول دفعات من القوات السوفييتية إلى مصر حتى بلغ عددهم أكثر من ١٠ آلاف فى ٢٤ أبريل ١٩٧٠ ..
* داخل الإدارة الأمريكية .. كان كسينجر – كما جاء فى مذكراته- قد أعد خطة لتدخل عسكرى أمريكى إلى جانب إسرائيل .. لمواجهة إدخال قوات سوفييتية إلى الشرق الأوسط ..!
* لكن البنتاجون رفض هذه الخطة .. وأرسلت وزارة الدفاع الأمريكية مذكرة رسمية إلى البيت الأبيض تؤكد فيها على انها تفضل الخيارات السياسية ..
* ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك الوقت .. كانت غارقة حتى أذنيها فى حربها المفتوحة فى فيتنام وكمبوديا ولاوس .. وتتكبد هناك خسائر كبيرة فى الأرواح والمعدات .. بالتالى هى ليست فى حاجة إلى فتح جبهة جديدة فى الشرق الأوسط .. لاسيما ان الهدف من فتح هذه الجبهة هو حماية دولة أخرى هى “إسرائيل” كما كان كسينجر يخطط ..!
* لذلك .. بدأ وزير الخارجية الأمريكى ويليام روجرز فى إعادة إحياء مبادرته للتسوية السياسية فى الشرق الأوسط التى سبق أن أعلنها فى ٩ ديسمبر ١٩٦٩ .. بطرح مشروعه الجديد فى ٢٥ يونيو ١٩٧٠ الذى عرف باسم “مبادرة روجرز ب” .. وتضمن عدة نقاط أهمها :١- وقف إطلاق نار لمدة ٩٠ يوما ..
٢- إجراء مفاوضات غير مباشرة عبر الوسيط الدولى السفير جونار يارنج حول الإجراءات التى تتخذ لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ ، بما فى ذلك إنسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها فى يونيو ٦٧ ..
٣- إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل .. وإحلال السلام بينهما .. حالما يودع الطرفان الإتفاق النهائى بينهما لدى الأمم المتحدة ..
وذلك بالإضافة طبعا إلى كل النقاط الأخرى التى وردت فى القرار ٢٤٢ ..
اعلن عبد الناصر قبوله مبادرة روجرز .. لأنها كانت ترتكز على نفس النقاط الواردة فى القرار ٢٤٢ .. الذى سبق أن وافق عليه عبدالناصر فى نوفمبر ١٩٦٧ ..
* لكن ..
* بينما كان عبدالناصر منهمكا فى استكمال بناء حائط الصواريخ السوفييتية لحماية أجواء مصر وأراضيها .. فوجئ بحملة شعواء من الفلسطينيين بسبب قبوله مبادرة روجرز .. وصفوا فيها عبد الناصر بالخيانة .. ونعتوه بأحقر الالفاظ .. فغضب لذلك غضبا شديدا .. وصل به إلى درجة أنه .. فى أغسطس ١٩٧٠ .. قبل وفاته بشهر واحد .. أمر بإغلاق إذاعة فلسطين التى كانت تبث من القاهرة ..!
* لقد شعر عبدالناصر بخيبة أمل كبيرة من الفلسطينيين .. وهو الذى عاش عمره كله من أجل القضية الفلسطينية منذ حرب ١٩٤٨ .. !
* خيبة أمل عبدالناصر .. الكبيرة فى الفلسطينيين .. + خيبة أمله فى العرب الذين تخلوا عنه فى معركة صموده فى الأمم المتحدة ضد القرار ٢٤٢ .. جعلته يشعر بأنه يقف وحيدا مع شعبه فى الصراع ضد إسرائيل وأمريكا .. .. حتى أصحاب القضية ، وهم الفلسطينيون باعوه وأساءوا إليه ..!
* أدرك عبدالناصر أنه يخوض الصراع العربى- الإسرائيلى بمفرده .. على الجبهتين العسكرية والسياسية ..
* فى هذا الظرف التاريخى .. ووسط هذه المشاعر .. تلقى اتصالا هاتفيا من العقيد معمر القذافى .. وجرت بينهما المكالمة .. التى مازالت حتى الآن يتردد صداها فى كل السماوات العربية ..
* رحم الله الرئيس جمال عبدالناصر .. البطل الذى عاش مخلصا لوطنه .. وظل يدافع عنه حتى آخر لحظة فى عمره ..!
السيد هانى ..
نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية ..
الكاتب المتخصص فى الشئون الدولية ..
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية ..