العشماوي عبدالكريم الهواري يكتب : (عندما يبكي عنب الذيب من مر الحصرم)

بقلم الكاتب الدكتور العشماوي عبدالكريم الهواري
أستاذ واستشاري ترميم وصيانة المباني والمنشات الأثرية والتراثية رئيس قسم ترميم وصيانة الآثار
أساس حجري مر به العمر سريعا كعادته وبدأت عضلاته الرابطة له في التآكل مما جعل بنياته تتراخي وتغير انتظامها محاولا أن يقوم بعمله اليومي مقابل الحياة ، كل يوم يحمل الجدار الرابض علي كتفيه، محاولات يومية نتج عنها شروخ غائرة في نفسه وقد سكنته سلالات من حشرات وحيوانات متنوعة لم تعرف سواه وطن، وهناك في الركن الشمالي الشرقي منه وقفت تلك الجنود المتجذرة في الأرض من نبات الحلفا البرية والتي عاصرت عابر جد أمل صاحبة الأدوات الهندسية التي اشترتها بشق الأنفس حتي تصبح مهندسة تخطط مستقبل أفضل إلا أن القدر كان له رأي أخر في ان تعمل علي نفس خطي جدها الذي بني هذا المنزل ليتزوج جدتها صابرين من عمله في ارض الحج عبدالغني، كان بناء هذا المنزل علي أطلال منزل جده عبدالمعبود من مدخراته ومن ضرب فاسه في حفر قناة السويس، وكان هناك شاهد أخر من الشيوخ المعمرين، ذلك الشيخ الذي يظهر في مواسم ثابتة حاملا ذهبه الأسود البراق المنمنم تلك اللآلئ السوداء ما بين أوراقة الصغيرة في شكل عناقيد متضوئه جميلة المظهر لاذعة الطعم تشتهيها النفس ولكنها حبات سامه فتتقبل النفس سمها برضا تام لأنه اختيارها، كأن النفس تعرف اختياراتها، هذا العنب البري السام الجميل ( عنب الذيب) والذي يحمل من اسمه الكثير حيث كان يظل نائما ولكن عيونه السوداء متفتحة تغازل أضواء السماء حتي يستيقظ الفجر لتنطلق أغصانه في الاستيقاظ والحركة بعد نوم جسدي طويل فتلامس سيقان الحلفا المتدلية رؤوسها المثقلة بندي قطرات صيفية خفيفة تتلاعب علي ظهرها مع هبات نسيم صيفي بفجر غير كل فجر.
تهافت الشيخان العجوزان ليكونا في استقبال أمل عند قدومها بجلبابها المنقوش بورود جميلة تشع حياه ولكن هذا الصبح كانت الورود منطفئة ومنكسرة، مرت أمل كعادتها ولم تجلس كعادتها بل انحنت كأنها في عجلة لأمر هام ينتظرها ولامست خصلات من شعر الحلفا والتي تشبثت أشواكه بأناملها الصغيرة المصبوغة بألوان لم تنضج بعد من عنب غير بري كأنها تقول لها اجلسي معنا أكثر ولكنها نزعت يديها منه ثم التقطت حبات من عنب الذيب فكان أخر طعم مر سام استساغة لسانها بنشوة تامة ، وهنا تركتهم خلفها ينظران دون أن تعاود النظرات الجميلة لمداعبتهم كما اعتادت لتلحق برفيقاتها لجني حصرم العنب المر الذي يمتز به علية رجال الغرب شرابهم الروحي علي صالات القمار الكبري حتي يخططوا مستقبل أمل في الشرق.
لم تعلم ولكن أحست ورفيقاتها انه أخر عهدهم بتلك السيارة التي تحملهم ولم تعلم أنها لن تسمع صراخ المعلم سعيد مقاول الأنفار الذي يأخذ شبابهم مقابل أن يصنع لهم مستقبل غربي مشرق.