الرئيسيةمقالات الرأي

الفنانة إيناس نور تكتب:مسرح الطفل.. قوة ناعمة تبني المستقبل

بقلم: الفنانة إيناس نور
مدير عام المسرح القومي للطفل

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيرات الثقافية والاجتماعية، وتشتت معه مصادر تعلم الطفل بين الشاشات ووسائل التواصل، يبقى للمسرح مكانة فريدة لا يمكن لأي وسيلة أخرى أن تنافسها: إنه تجربة إنسانية حية تجمع بين التعلم واللعب والخيال. مسرح الطفل ليس نشاطًا ترفيهيًا فحسب، بل هو «قوة ناعمة» قادرة على صياغة الذوق، ترسيخ القيم، وتشكيل وعي وبنية نفسية واجتماعية لدى الأجيال القادمة.

المسرح القومي للطفل: رسالة تاريخية وتحدٍ معاصر

منذ تأسيسه، حمل المسرح القومي للطفل رسالة تربوية وطنية: تحويل المتعة إلى معرفة، والخبر إلى قيمة. ومع تحولات المجتمع وتعدد مصادر التأثير على الطفل، فإن واجب المسرح اليوم يتعدى تقديم العروض إلى أن يكون مصنعًا للإبداع والمنهجية في التربية الفنية، ومركزًا للتجربة التشاركية بين الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني.

في هذا السياق، نرسم رؤية متكاملة ترتكز على أن يكون المسرح القومي للطفل:

  • نقطة التقاء للتراث والحداثة.
  • منصة لاكتشاف المواهب الصغيرة وصقلها.
  • مساحة آمنة للتجريب الفني والتعلم السلوكي.
  • جهة فاعلة في المشهد الثقافي الوطني وعاملًا في الدبلوماسية الثقافية الناعمة.

المسرح كأداة تربوية — كيف يعمل التأثير الناعم؟

التعلم بالمسرح يحدث عبر ثلاث طبقات متداخلة:

  1. التجربة الحسية: الطفل يرى، يسمع، يتحرك ويشعر — التجربة الحية تغرس الذاكرة.
  2. السرد والتمثيل: من خلال القصة والشخصيات، يتعرف الطفل على قيم مثل التضامن، الصدق، والتسامح دون توجيه مباشر.
  3. المشاركة والتفاعل: العروض التفاعلية والورش تجعل الطفل مشاركًا فاعلًا، ما يزيد من ديمومة أثر التعلم.

من هنا تصبح الرسائل القيمية أكثر فعالية، لأن الطفل «يعيشها» لا يكتفي بسماعها.

برامج مقترحة وخطط تنفيذية عملية

لكي يتحول هذا الخطاب إلى واقع ملموس، أقترح حزمة برامج متكاملة قابلة للتنفيذ خلال العام الأول:

1. سلسلة إنتاجات مسرحية موضوعية

مسرحيات قصيرة (30–45 دقيقة) تتناول قضايا: التسامح، حقوق الطفل، الصحة، البيئة، وأمن الإنترنت.

مسرحيات تراثية معاصرة: إعادة صياغة حكايات شعبية بروح معاصرة تحترم التراث وتربط الطفل بجذوره.

2. ورش تعليمية وبرامج تدريبية منتظمة

ورش تمثيل للأطفال (6–12 سنة) وورش تمثيل موجهة للمدرسين لتوظيف المسرح في التعليم.

ورش كتابة قصص قصيرة ومسرحيات للأطفال لاكتشاف المواهب الأدبية.

ورش تقنية صغيرة (الديكور، الإضاءة، الصوت) لتعريف الأطفال بالجوانب الفنية خلف الكواليس.

3. مشروع «المواهب الصغيرة»

اكتشاف دوري للمواهب بالتعاون مع المدارس والمراكز الثقافية.

برنامج متابعة مدته سنة يتضمن تدريبًا مسرحيًا وغنائيًا ومسرحيًا-تعليميًا، مع عرض ختامي في مسرح السلطانة (أو المسرح المناسب).

4. التعاون مع المدارس والمؤسسات التعليمية

برامج شراكة لتدريب المعلمين على «التعليم بالمسرح» ودمج عروض قصيرة في المنهج الدراسي.

باقات عروض مدرسية متنقلة للوصول إلى المناطق النائية والريفية.

5. الرقمنة والانتشار عبر المنصات

تسجيل عروض مختارة بجودة احترافية ونشرها في قنوات تعليمية على الإنترنت مع مواد مرفقة (دليل للمعلم، أوراق نشاط للأطفال).

تطبيق تفاعلي أو منصة إلكترونية تحوي قصصًا مرئية وأنشطة بعد العرض لتعزيز التعلم.

6. مشاركة في المعارض والمهرجانات

مشاركة فعّالة ومنظمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعروض تفاعلية وركن للأطفال وورش فنية.

تنظيم مهرجان سنوي لمسرح الطفل يضم عروضًا محلية وعربية ودولية، وجلسات فكرية وورشًا تدريبية.

قياس الأثر: مؤشرات نجاح قابلة للقياس

لكي يؤسس المشروع لنجاح مستدام، نحتاج مؤشرات أداء واضحة:

  • عدد الأطفال المشاركين سنويًا (في العروض والورش والمخيمات).
  • عدد الشراكات مع المدارس والمؤسسات وتوزيعها الجغرافي.
  • معدل استجابة الأهالي (استطلاعات رأي قبل وبعد العرض).
  • مخرجات المواهب: عدد الأطفال الذين يدخلون برامج متقدمة أو يشاركون في عروض احترافية.
  • نسبة المشاهدين المتكررِين (ولاء الجمهور الصغير).
  • التغطية الإعلامية ومعدلات المشاهدة للمحتوى الرقمي.

هذه المعايير تساعدنا في تعديل البرامج وتوجيه الموارد بشكل فعّال.

الشراكات والتمويل: نموذج استدامة

التمويل لا يعني بالضرورة الاعتماد الكامل على موازنة واحدة؛ بل يمكن تنويع المصادر عبر:

  • شراكات مع وزارات (التربية، الثقافة، الشباب).
  • رعايات من القطاع الخاص لبرامج محددة (ورشة أو عرض).
  • برامج دعم من منظمات المجتمع المدني والمحافل الدولية المهتمة بالطفل.
  • إيرادات من العروض والورش، ومعارض الكتب، ومبيعات المواد التعليمية الرقمية.

تحديات ورؤية للتعامل معها

من التحديات: منافسة الشاشات، محدودية الميزانية، وصعوبة الوصول إلى المناطق المهمشة.
رؤيتنا لمواجهتها تتلخص في:

  • تقديم محتوى جذاب بصريًا ومؤثرًا عاطفيًا ليتنافس مع الشاشات.
  • بناء نموذج تمويل هجين.
  • إطلاق مبادرات متنقلة للوصول إلى كل طفل، أينما كان.

دعوة للمجتمع: المسرح مسؤولية مشتركة

مسرح الطفل ليس مشروعًا لمؤسسة وحيدة؛ إنه مشروع مجتمعي يحتاج إلى دعم الأسر، المدارس، الإعلام، والقطاع الخاص. عندما نستثمر في خشبة صغيرة اليوم، نزرع قيماً ومهارات ستثمر حاضرًا وأملاً لمستقبل أكثر توازنًا وإنسانية.

خاتمة: رسالة أمل

أؤمن بأن الفن مدرسة — والمسرح، بوجه خاص، مدرسة للتفكير والخيال والضمير. إن استثمارنا في مسرح الطفل هو استثمار في الإنسان، وفي مستقبلٍ تُحكى فيه حكاياتنا بقلوبٍ منفتحة وأذهانٍ مستنيرة.

دعونا نجعل خشبة المسرح وطنًا صغيرًا يعيد لصغارنا بريق الطفولة، ويمنحهم أدوات التفكير والرؤية التي يحتاجونها ليصبحوا قادة وفاعلين في مجتمعهم. فالقوة الحقيقية ليست دائمًا في الصراخ، بل في ذلك اللمس الناعم للقيم الذي يبني أجيالًا كاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى