الرئيسيةمقالات الرأي

حمدى حسن عبد السيد يكتب : الحفاظ على التراث .. معركة وعي من أجل الهوية والوجود

 

بقلم : حمدى حسن عبدالسيد 

امين عام جمعية للتراث النوبى 

 

تعقد المؤتمرات وتقام الندوات وتُثار فيها قضية الحفاظ على الثقافة المحلية والتراث الشعبي، ذلك الإرث الذي يشكّل جوهر الهوية الوطنية. غير أن هذه الفعاليات، رغم أهميتها، كثيراً ما تنتهي دون أن تترك أثراً حقيقياً في الواقع، فنعود إلى حياتنا اليومية المليئة بالتناقضات بين الأصالة والمعاصرة، وبين ما نملكه من موروث وما نعيشه من تغيرات متسارعة.

تتجدد الأسئلة مع كل مناسبة: لماذا يجب أن نحافظ على تراثنا؟ وما جدوى التمسك بثقافتنا المحلية في زمن العولمة؟ وهل يكفي الحديث عن التراث دون فعل حقيقي يضمن استمراريته ونقله إلى الأجيال القادمة؟

التراث ليس مجرد صور من الماضي، بل هو ذاكرة الأمة الحية، وجذورها التي تمتد في أعماق التاريخ. إنه منظومة متكاملة من العادات والتقاليد والفنون والقيم والمعارف الشعبية التي شكّلت وجدان المجتمع وشخصيته. فالحفاظ على التراث لا يعني الوقوف عند الماضي، بل يعني فهمه وتوظيفه في بناء المستقبل، لأنه يرسم لنا ملامح الطريق ويحدد لنا من نحن وماذا نريد أن نكون.

لكن الحفاظ على التراث ليس مهمة سهلة. فبعض عناصر هذا الموروث لم توثق بعد، وبعضها الآخر مهدد بالاندثار مع رحيل الحُفاظ والمعمرين، أو نتيجة لعوامل اجتماعية وثقافية جعلتنا أحياناً نتنكر لما ورثناه. وهنا تكمن أهمية التوثيق العلمي والمنهجي لكل ما يتعلق بالتراث المادي والمعنوي، من لهجات وأغانٍ وممارسات وفنون، إلى الحرف التقليدية والمأثورات الشعبية.

وتتداخل في هذه القضية عوامل عدة تؤثر في نظرتنا إلى التراث وفي جدّية جهود الحفاظ عليه، أبرزها التعليم، والدين، والقيم الروحية، واللغة. فكلما ارتفع مستوى الوعي والتعليم، زاد إدراك الأفراد لقيمة التراث وأهميته في حياتهم. كما أن الدين، باعتباره منظومة أخلاقية وروحية، يوجّهنا للحفاظ على ما يتسق مع القيم الإنسانية الأصيلة. أما اللغة فهي الوعاء الذي يحمل الذاكرة الجماعية ويصون ملامح الهوية، فباندثارها يضيع جزء كبير من التراث.

ولا يمكن أن تنجح أي جهود للحفاظ على التراث دون الإيمان بأنه مكوّن حيّ قابل للتطور والتجديد، لا أن يُجمد في صورته القديمة. فالموروث الحقيقي هو الذي يتفاعل مع العصر ويجد لنفسه مكاناً في الحياة الحديثة دون أن يفقد أصالته.

ومن أجل ذلك، تبرز الحاجة إلى خطوات عملية على المستويين الرسمي والمجتمعي، من أهمها:

دمج مفاهيم التراث في المناهج التعليمية لتنشئة جيل يعتز بهويته الثقافية.

إنتاج محتوى إعلامي وترفيهي يعرّف الأطفال والشباب بعناصر التراث، عبر الكرتون والبرامج الوثائقية والحملات التوعوية.

إحياء الرموز المعمارية القديمة وترميم القرى والمنازل والأسواق التراثية.

تشجيع الجمعيات والمبادرات الأهلية التي تعمل على توثيق المأثورات الشعبية وتوريث الحرف التقليدية.

إن الثقافة المحلية ليست مجرد مظهر جمالي أو فولكلور يمكن عرضه في المناسبات، بل هي روح الأمة وذاكرتها. فإذا اندثرت ثقافتنا، غابت روحنا الجماعية وبقي الجسد بلا معنى. ومن هنا، فإن الحفاظ على التراث ليس ترفاً فكرياً، بل هو واجب وطني وإنساني يضمن لنا الاستمرار في وجه رياح التغيير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى