حمدي الكوني يكتب: الدولة العميقة تمشي على الماء

جرت العادة ان القديسين والأنبياء هم فقط من يمشون على الماء , نظرا لقداستهم وطهارتهم وأنهم خارقين ومميزون عن البشر , لكن هل رأينا دولة تمشي على الماء ؟!!
في الثامن من اكتوبر بدأ الجيش الإسرائيلي بمحاولة استيعاب ما تعرضت له البلاد من سابقه حصرية مؤلمة وهي الهجوم المباشر على الأراضي المحتلة عام 1948 , وهو تحول جذري في الموقف الفلسطيني من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم , وهي سابقة تنذر بقرب زوال دولة الكيبوتسات كما لمّح له القران الكريم في الكثير من المواضع القرانية
تدحرجت الأحداث ككرة الثلج وبدأت تكبر يوما بعد يوم , حتى ان كرة الثلج هذه كانت تكبر مرتين في نفس اليوم بسبب تسارع الأحداث في قطاع غزة المرتبط إرتباطا عميقا في الدولة المصرية , حيث العلاقات التاريخية بين الشعبين منذ الأزل , ومع تقادم السنين تشابكت الأنساب بين الشعبين بحكم المرور السهل والتنقل اليومي للعائلات الغزية الى أرض النيل الأزرق
وعلى مدى سنوات العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع لم تمر جولة من جولات القتال إلا وكانت الدولة المصرية حاضرة بكل المواقف , منها سياسية , ومنها مواقف الدعم اللوجستي , ناهيك عن الإشراف المباشر على المفاوضات بجميع المراحل , ودائما ما كانت الجملة الشهيرة تتوج بنهاية إتفاقات الهدنة ( تم توقيع الإتفاق بوساطة مصرية ) أو ( تم تمديد تواجد الوفد في القاهرة ) , او ( توجه صباح اليوم وفد المفاوضات الى القاهرة لإستكمال المفاوضات )
هذه الجمل التي تعودت اذاننا على سماعها ما هي إلا جمل رائعة أصبحت تثير لدينا هرمون السعادة عند سماعها , لما لها من أثر نفسي على الشعوب العربية عامة وعلى شعب القطاع خاصة, فهي أشبه بقصة طفل صغير يلهو أمام منزله وقد تعرض لإذى من أحد الشبان من جيل مختلف , فما أن يأتي والد الطفل حتى يتراجع هذا الشاب عن العربده والتشبيح ويعرض أطروحاته لحل الموضوع بالطرق السلمية بحكم اننا نسكن في نفس المنطقة , هذه هي مصر
وعلى مر الجولات القتالية في القطاع إبتداءا من عام 2008 وحتى اليوم السابع من اكتوبر , دائما ما نرى في اشتداد الأزمات ووصول الأمور القتالية وحالة حصار القطاع إلى عنق الزجاجة , نرى الدولة المصرية تستخدم العصيان السحرية التي تمتلكها بحكم الثقل المعنوي , والثقل العسكري لهذا القطر العربي المنيع , وتبدأ بالتلويح شفهيا ببعض الإجرائات التي دائما ما تربك العدو الإسرائيلي , وما ان تلوّح شفهيا حتى يهدأ سعار الإسرائيلي ويعرض بدبلوماسية تنسيق المواقف او محاولة تعديل الخطه ,وعندما تستعصي الأمور وتتمسك مصر بموقفها , نرى المبعوثين الدوليين يهرولون إلى الشرق الأوسط حاملين معهم خطط طريق مخزنة في ثلاجات الكونجرس أعدت خصيصا لوقت التدخل المصري الصريح
لنعود إلى الخلف قليلا …
هناك نظرية تقول ان الخلفية العسكرية المصرية والطموح الإسرائيلي خطان لا يلتقيان مهما حدث
الطموح الإسرائيلي .. كان ولا زال حلما وهاجسا بالتوسع على ارض المثلث الذهبي وهي سيناء المصرية , وقد سخر الإسرائيلي شتى الطرق لإقناع الجبهة الداخلية دينيا وعسكريا بأهمية هذا المثلث , وأن الحلم الصهيوني لا يكتمل إلا بتتويج سيناء عروس إفريقيا داخل جيب القميص الإسرائيلي
وكانت هناك محاولة مباشرة في الستينيات طلبا للتوسع , وقد كان أن حصلوا على المثلث لبضع سنين وما لبث الإسرائيلي ان تذوق حلاوة المنتج الإفريقي وتعلق برماله , وما أن بدأ الإسرائيلي بإعداد قهوته وسماع فيروز في الصباح أتى الرد العسكري من القاهرة بأن الأرض ليست للبيع ولا يوجد لها وسطاء , مع السلامة , نلتقي في طابا لنسترجعها أيضا
صدمت إسرائيل , وابتلعت صدمتها دون كلام , وظلت هذه الصدمة معلقة في المريء الإسرائيلي لغاية عام 2005 وهو عام الإنسحاب الأحادي الجانب الذي نفذه شارون , وبدأت بالتفكير بالحلول , وما أن وصلت إلى حل يشط ويمط في السنين , يعني ان هذا الحل قابل للطرق والسحب والثني كما بعض المعادن .. أطلقت الضوء الأخضر لسعارها المكتوم طويلا
قطاع غزة والغزيين
فقد خطط الإسرائيلي لغزة ان تكون فعلا غزة في خاصرة الدولة المصرية , وبنى احلامه على هذا الأساس , وأن هذه القطعه من الأرض هي التي ستطيح بالنظام المصري والذي بناءا عليه سيسقط النظام العسكري الأقوى عربيا , فاستخدم اسلوبا إبليسيا للإيقاع بين الأشقاء , وفرح الإسرائيلي جدا عندما دخلت القوات المصرية بعتادها الثقيل إلى المثلث الذهبي لمحاربة الإرهاب
وعلى مبدأ ( كذبنا الكذبة وصدقوها )
بدأت القوات المصرية بمبادلة الأراضي المحاذية للقطاع وتعويض أصحابها وأحيانا الهدم والتعويض , وكان الإسرائيلي مسرورا جدا لهذه الخطوات التي باعتقاد الإسرائيلي ستعدم عمليات وصول الأسلحة إلى القطاع
لكنه لا يعلم بمخطط الدولة المصرية العميقة والتي لا تطيح بالأشقاء ابدا , فقد تمركزت القوات المصرية في اقصى نقطة حدودية مع القطاع بحجة مكافحة الإرهاب كما خطط الإسرائيلي
وعلى مبدأ النسكافية ( تنين بواحد ) قامت الدولة المصرية العميقة بالدخول الى سيناء بحريتها دون تقيد بأي اتفاقيات سابقة وفي نفس الوقت لاحظنا غزارة العتاد العسكري الموجود في القطاع وظلت هذه الحالة بين التكهن والتحليل إلى لحظة مواجهة الحقيقة , او بمعنى اخر لحظة تدفق التيار الكهربائي بقوة 3 فاز إلى جسد الإسرائيلي يوم الحرب الأوكتوبرية في القطاع
فقد رأى الإسرائيلي الجو والبر والبحر يشتعل في غلاف القطاع المحتل , وصعق بنفس التيار الكهربائي عندما رأى كميات السلاح والعتاد في القطاع والتي تدخل عامها الثالث في خدمة المقاتلين , رغم تواجد القوات المصرية في المثلث الذهبي
وسرعان ما تحطمت أوهام الإسرائيلي بأن غزة هي غزة في الخاصرة المصرية , وبدأ شعور إسرائيلي خفي بمخطط الدولة المصرية العميقة وهو أن القطاع هو خط الدفاع الأول عن المثلث الذهبي
فأنا أشبّه تفكير الدولة المصرية العميقة بالتفكير السياسي البريطاني المخضرموهو بناء النتائج الإيجابية على خطط العدو السلبية
وتوالت الصدمات على دولة الكيبوتسات في الحرب الأوكتوبرية , بأن ما هذا ؟ , ما الذي يحدث ؟, توقعنا نفاذ السلاح , ونفاد العتاد العسكري , ونفاذ الصواريخ من القطاع بعد مدة اقصاها 6 شهور
إستخبارات الإسرائيلي تسأل : غزة لا تشرف إلا على معبر رفح المدمر والجيش المصري موجود في كل شبر من سيناء , من أين يدخل العتاد والسلاح إلى القطاع ؟؟؟
الدولة المصرية العميقة تجيب : نحن موجودون في سيناء لمكافحة الإرهاب
وصلت الرسالة إلى الإسرائيلي , فاتخذ قرار المواجهة المباشرة مع مصر , بدلا من التلميحات الخجولة التي امتدت لسنوات
نريد توطين الغزيين في سيناء , ليس لحمايتهم كمان ندّعي , وليس لإحتلال قطاع غزة كمان نوهمكم , بل لإعداد وجبة الإفطار على المثلث الذهبي وإكمال الحلم الصهيوني
واستغلت إسرائيل وصول رئيس دولة الهومليستات الذييستخدم عضلاته دائما , وعندما أصبح الشيء فقط يحتمل إجابتين , وهما نعم أو لا
مشت الدولة المصرية العميقة على الماء , ولم تضع وقتها ووقود طائراتها في السفر إلى الرئيس الأشقر , بل جلبت الجميع إلى المعقل العربي في القاهرة وقالت ( لا ) بكل وضوح وكأنها القديس الذي مشى على الماء , بينما غرق الكثيرون .