عرب وعالم

دار الإفتاء العُمانية… حين يتحول الدين إلى ركيزة دولة

 

رندة رفعت

في زمن تتشابك فيه الأزمات الدينية والسياسية، وتتصاعد فيه خطابات الاستقطاب والتشدد في أكثر من بقعة إقليمية، تبرز سلطنة عُمان كنموذج فريد في إدارة الشأن الديني، عبر مرجعية راسخة يقودها خطاب موحد، متزن، وعقلاني، كانت دار الإفتاء العُمانية أحد أعمدته الأساسية، وضامنًا رئيسيًا لاستقرار الداخل ورافدًا ناعمًا لحضور السلطنة الدبلوماسي الخارجي.

 

لقد أدركت سلطنة عُمان مبكرًا أن ضبط الخطاب الديني لا يعني تقييده، بل توجيهه بما يحفظ هيبة الدين، ويصون المجتمع من الفوضى الفكرية، ويمنع توظيف الفتوى في الصراعات السياسية أو الأيديولوجية. ومن هذا المنطلق، جاء توحيد المرجعية الدينية خيارًا استراتيجيًا واعيًا، لا إجراءً إداريًا عابرًا.

 

وفي هذا السياق، يؤكد الشيخ أحمد بن سعود السيابي، أمين عام مكتب الإفتاء بسلطنة عُمان، أن وضوح المرجعية الدينية الرسمية أسهم في بناء حالة من الثقة المجتمعية العميقة، وجعل الخطاب الديني عنصر تماسك واستقرار، لا أداة انقسام أو استقطاب. فدار الإفتاء، وفق هذا النهج، لم تكن مؤسسة إصدار فتاوى فحسب، بل مؤسسة وعي، وحصنًا أخلاقيًا وفكريًا للمجتمع.

 

ويولي الخطاب الديني العُماني اهتمامًا خاصًا بالشباب، انطلاقًا من إيمان راسخ بأنهم عماد الحاضر وصُنّاع المستقبل. فالتحديات الاقتصادية المتصاعدة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وغلاء المهور، أفرزت إشكاليات اجتماعية واضحة، من بينها تزايد نسب الطلاق، وهي قضايا لا يمكن معالجتها بخطاب وعظي تقليدي، بل تحتاج إلى فقه واقع، وفهم عميق لتحولات المجتمع.

 

ومن هنا، تضطلع دار الإفتاء بدور إرشادي توعوي متقدم، يسعى إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة حول الزواج، وترسيخ ثقافة التيسير، وتعزيز المسؤولية الأسرية، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الاستقرار الأسري هو حجر الأساس في استقرار المجتمعات والدول. وهو خطاب يجمع بين الثوابت الشرعية ومتطلبات العصر، دون تفريط أو جمود.

 

ومع اتساع الفضاء الرقمي، وما يحمله من خطابات دينية متباينة، بعضها يفتقر إلى العلم والمنهجية، خاصة في استهدافه لفئة الشباب، اختارت دار الإفتاء العُمانية نهجًا واعيًا يقوم على بناء الثقة والوعي، لا الاكتفاء بالمنع أو التحذير. فكان الخطاب الديني العُماني حاضرًا بلغة عقلانية، هادئة، قريبة من الناس، قادرة على مخاطبة الجيل الجديد دون وصاية أو تشدد.

 

هذا التوازن الدقيق في إدارة الشأن الديني انعكس بوضوح على السياسة الخارجية العُمانية. فالدولة التي نجحت في تحصين جبهتها الداخلية بخطاب ديني معتدل، استطاعت أن تكتسب مصداقية دولية أهلتها للقيام بأدوار وساطة محورية في ملفات إقليمية ودولية معقدة.

 

وفي هذا الإطار، يشير السيابي إلى أن الدور العُماني في الوساطات الدولية، ومن بينها الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران خلال فترات التوتر، لم يكن وليد المصادفة، بل ثمرة نهج متكامل يقوم على الحياد الإيجابي، والعدل، والوضوح، وعدم الانخراط في محاور متصارعة، مدعومًا برصيد أخلاقي وخطاب ديني لا يؤجج الصراعات ولا يغذي الكراهية.

 

ويؤكد أن الحياد العُماني لا يعني التخلي عن المواقف المبدئية، بل يقوم على دعم الاستقرار الإقليمي، والانتصار للقضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ضمن رؤية تؤمن بأن الحوار هو المسار الأقل كلفة والأكثر استدامة لصون السلم الإقليمي والدولي.

 

وفي ختام هذا المشهد، تقدم دار الإفتاء بسلطنة عُمان نموذجًا جديرًا بالاهتمام دوليًا، يؤكد أن المرجعية الدينية حين تُبنى على الحكمة، والاعتدال، والوعي بالإنسان والواقع، تتحول إلى قوة ناعمة، قادرة على حماية الداخل، وتعزيز صورة الدولة، والمساهمة في صناعة السلام خارج حدودها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى