د خالد السلامي يكتب : اليوم العالمي للغة العربية: حين تتكلم الحضارة بصوت الحرف

بقلم د خالد السلامي
ليست اللغة العربية مجرد وسيلة تواصل، بل هي ذاكرة أمة، ونبض حضارة، ووعاء فكر امتد قرونًا وهو قادر على التجدد دون أن يفقد أصالته. في اليوم العالمي للغة العربية، لا نحتفي بحروفٍ تُكتب، بل نحتفي بروحٍ ما زالت قادرة على أن تقول للعالم: ما زلت حيّة، وما زال لدي ما أقدّمه.
العربية لغة بدأت شعرًا قبل أن تُقنّن نحوًا، وبلاغةً قبل أن تُصنّف علمًا. لغةٌ استطاعت أن تحمل الفلسفة الإغريقية، وتؤسس لعلوم الطب والفلك والرياضيات، ثم تعود فتحتضن الروح في آياتٍ تهزّ القلوب قبل العقول. هي اللغة الوحيدة التي جمعت بين قدسية النص، ومرونة التعبير، وسعة الخيال.
المدهش في العربية أنها لم تُخلق لتكون سهلة، بل خُلقت لتكون عميقة. عمقها ليس عائقًا، بل ثراء. فكل كلمة فيها تحمل طبقات من المعنى، وكل تركيب يفتح أبوابًا من الدلالة. ولهذا، كانت العربية لغة تفكير قبل أن تكون لغة حديث، ولغة بناء إنساني قبل أن تكون أداة تواصل يومي.
ورغم كل ما مرّ بها من محاولات تهميش أو اختزال، ما زالت العربية تقف شامخة. تتراجع أحيانًا في الاستخدام، لكنها لا تنكسر في الجوهر. لأن اللغات لا تموت حين تُهمَل، بل تموت حين تفقد من يؤمن بها. والعربية، حتى في أصعب مراحلها، لم تفقد عشّاقها ولا حراسها.
اليوم العالمي للغة العربية ليس مناسبة احتفالية عابرة، بل وقفة وعي. سؤال صريح نطرحه على أنفسنا:
هل نستخدم العربية لأنها لغتنا، أم لأننا ندرك قيمتها؟
هل نعلّمها لأبنائنا كواجب مدرسي، أم كهُوية حضارية؟
اللغة العربية لا تطلب منا أن نبكي على أطلالها، بل أن نعيد إليها دورها الطبيعي: لغة علم، لغة فكر، لغة حوار مع العالم. أن نكتب بها بثقة، ونتحدث بها بلا اعتذار، ونطوّرها دون أن نشوّهها.
في هذا اليوم، نقول للعربية: لسنا نخاف عليك من الزمن، بل نخاف علينا إن فقدناك. فأنتِ لستِ ماضيًا ندرسه، بل مستقبلًا يجب أن نُحسن صناعته. كل عام ولغتنا العربية بخير… ما دمنا نحن بخير معها.




