الرئيسيةمقالات الرأي

ريماس الصينية : مذبحة نانجينغ الصينية: جرح في ذاكرة التاريخ ودعوة للسلام

 

بقلم: ريماس الصينية – صحفية في CGTN العربية

هل تعلمون؟ في الآونة الأخيرة، أثار فيلم صيني جديد جدلا واسعا بعنوان أدلة دامغة (Dead To Rights). تدور أحداثه على خلفية مذبحة نانجينغ عام 1937، ويروي قصة مجموعة من الأشخاص العاديين الذين خاطروا بحياتهم داخل استوديو تصوير لتوثيق وحفظ صور لجرائم الجيش الياباني في نانجينغ. من خلال هذا المشهد الصغير، يعرض الفيلم شجاعة وذكاء الشعب الصيني في أحلك اللحظات، وينقل رسالة المقاومة وعدم الاستسلام أمام الغزو.

ربما لا يعرف كثيرون منكم أن الصين عاشت مأساة تاريخية تعرف بـمذبحة نانجينغ. هذه الحادثة محفورة بعمق في ذاكرة كل صيني. قبل 88 عاما، داس الغزاة اليابانيون بأقدامهم على أرض مدينة نانجينغ الهادئة، وحولوا هذه العاصمة التاريخية إلى ساحة قتل جماعي. وفي غضون ستة أسابيع فقط، قتل نحو 300 ألف مدني بريء، وتعرضت أكثر من 20 ألف امرأة للإغتصاب، وتحولت المدينة إلى أنقاض وسط ألسنة اللهب وصرخات الألم.

تشير اختبارات أجرتها جامعة نانجينغ للمعلمين عام 2015 إلى أن نسبة الحديد في تربة المنطقة الأساسية للمذبحة تزيد من 10 إلى 15 مرة عن المناطق المحيطة، وهو أثر الدماء التي سالت على هذه الأرض. وعلى ضفاف نهر اليانغتسي استمرت المجازر أسابيع، حتى أن مياهه احمرت بسبب الدماء التي أريقت. وقرب بوابة هانتشونغ (إحدى بوابات مدينة نانجينغ) أعدم أكثر من ألفي شخص دفعة واحدة. وكتب الألماني جون راب في يومياته: “كل بضع خطوات ترى أكواما من الجثث، وآثار الدماء على الثلج تشكل صورا مرعبة.” لقد كانت تلك واحدة من أحلك الصفحات في تاريخ الحضارة الإنسانية.

في نانجينغ المحتلة، انهارت كل مظاهر النظام الاجتماعي. هرب كثيرون بحثا عن النجاة، لكن آخرين اختاروا مواجهة الخطر لتوثيق الحقيقة بالصور والكتابة والمذكرات. هذه المواد جعلت العالم يرى حقائق لا يمكن إنكارها. فقد التقط مصورون وصحفيون من الصين وخارجها، إضافة إلى مدنيين، صورا تظهر عمليات الإعدام الجماعي، والجثث المكدسة، ووجوه الناجين المذعورين. أخرجت هذه الصور خفية من المدينة، أو حفظت في أماكن سرية حتى ظهرت للعلن بعد الحرب. وكما في أحداث الفيلم، لعبت هذه الأدلة دورا حاسما في المحاكمات اللاحقة.

في عام 1946، أجرت المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى محاكمة لعدد من مجرمي الحرب اليابانيين، وكانت مذبحة نانجينغ من أبرز الاتهامات. عرضت المحكمة صورا وأفلاما من نانجينغ جعلت أي محاولة للتبرير بلا قيمة. وجاءت شهادات الناجين مطابقة لهذه الأدلة البصرية، لتشكل سلسلة قوية من الإثباتات. وأُدين عدد من مجرمي الحرب الذين شاركوا مباشرة في المذبحة. لقد كانت هذه الصور سلاحا أساسيا في تحقيق العدالة، وإن كانت العدالة لم تكتمل بحق كل الجناة.

مرت أكثر من ثمانية عقود، لكن النظر إلى تلك الصور الباهتة ما زال يبعث في النفوس شعورا بالصدمة والكآبة. قوة الصورة تكمن في أنها تجبر الأجيال اللاحقة على مواجهة الحقيقة. ولهذا يواصل الناجون والمؤرخون والمتطوعون حماية هذه الصور والأرشيفات، وعرضها في المتاحف والمناهج والفعاليات التذكارية، لأن طمس الحقيقة قد يفتح الباب لتحريف التاريخ.

مذبحة نانجينغ ليست مأساة صينية فقط، بل جزء من ملحمة الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية. سواء في آسيا أو أوروبا، لم يجلب الغزو سوى الخراب وفقدان الأرواح. لذلك أصبح الإيمان بمناهضة العدوان وصون السلام حجر الأساس للنظام العالمي بعد الحرب. من ستالينغراد في الاتحاد السوفيتي، إلى المقاومة الفرنسية، ومن ساحات المعارك في شمال إفريقيا إلى نضالات الاستقلال في الشرق الأوسط، ظلت روح مقاومة الظلم إرثا مشتركا للبشرية.

اليوم، أصبحت نانجينغ مدينة عصرية مزدهرة، لكن في أعماق ذاكرتها مكان ثقيل الوطأة: قاعة تذكارية لضحايا مذبحة نانجينغ على يد الغزاة اليابانيين. يزور هذا المكان سنويا آلاف الأشخاص من مختلف أنحاء العالم ليقفوا دقيقة صمت، في تذكير دائم بأن السلام ليس شعارا مجردا، بل حقيقة دفعت أثمان باهظة لتحقيقها. فلا يمكن منع تكرار المأساة إلا بتذكر التاريخ.

فيلم “أدلة دامغة” ليس سوى فرصة لإعادة لفت الأنظار إلى هذه الحقبة. مأساة نانجينغ تذكرنا بوجوب كشف جرائم العدوان وصون قيمة السلام. واليوم، بينما لا تزال نيران الحرب مشتعلة في غزة ومحيطها، يعيش المدنيون الأبرياء تحت ويلات القصف والحصار والنزوح. الخراب والدموع والعائلات المشردة يعيدون إلى الأذهان تلك الذكريات الدامية من نانجينغ. سواء قبل ثمانين عاما في الصين أو في أي بقعة يشهد العالم فيها الحروب اليوم، فإن نتائجها تخلف الخراب والمعاناة نفسها.

إن تذكر التاريخ ليس لإدامة الكراهية، بل لمنع تكرار المأساة. السلام هو أمل الشعوب كافة، ولا قوة قادرة على محو وجود أمة أو ثقافتها. وفقط الاحترام المتبادل لحق الشعوب في الحياة والتنمية، والتمسك بالعدالة والإنصاف، يمكن أن يبعد العالم عن ويلات الحروب، ويمنح الأجيال القادمة فرصة للنمو تحت أشعة الشمس، لا في ظلال الدمار والخوف.

 

زر الذهاب إلى الأعلى