عبدالحليم قنديل يكتب : هوامش على قصف قطر

عبدالحليم قنديل
حجم المخفى أكبر بكثير مما هو معلن عن عملية قصف طائرات الاحتلال لمكاتب “حماس” فى الدوحة ، يكفى أن تعلم ـ مثلا ـ ما فعله الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” مع تنفيذ الضربة “الإسرائيلية” ، ذهب “ترامب” مع نائبه والوزراء الكبار إلى احتفال بمطعم فى واشنطن ، ولم يعكر صفو الاحتفال سوى عدد من النشطاء الأمريكيين المؤيدين للقضية الفلسطينية ، اقتحموا المطعم ورفعوا أعلام فلسطين ، وراحوا يهتفون ويصرخون “الحرية لفلسطين” و”ترامب هتلر عصرنا” ، فيما راح “ترامب” ينظر ساخرا للنشطاء ، بينما قوات الأمن تلقى بهم إلى خارج مطعم الاحتفال ، وقد لا تحتاج إلى كثير ولا قليل من التفكير ، حتى تدرك أن انتعاش “ترامب” وقتها واحتفاله المبكر ، كان وراؤه ظن غالب عليه ، أن العملية التى نسقها مع “بنيامين نتنياهو” وجيشه ، سوف تحقق هدفها بالضبط ، وسوف تنتهى إلى اغتيال كل أعضاء وفد “حماس” المفاوض ، وعلى رأسهم “خليل الحية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس” فى غزة ، وهو ما أوحت به تصريحات “نتنياهو” المتفاخرة الأولى عقب العملية ، وقد حفلت بإشارات متعجرفة عن مدى الدقة البالغة لسلاح الجو “الإسرائيلى” .
وقد شاءت عناية الله ، أن تفشل العملية “الإسرائيلية” المتفق عليها مع واشنطن ، وأن ينجو قادة “حماس” كما قالت الحركة فى بيان رسمى عاجل ، وكان الفشل ظاهرا فى تصريحات “إسرائيلية” تالية ، كان أولها كلام سفير “إسرائيل” فى واشنطن “يحيئيل لايتر” ، الذى قال لقناة “فوكس نيوز” الأمريكية ، أنه “إذا كنا لم نقض على قيادة حماس هذه المرة فسنصل إليهم فى المرة القادمة” ، وهو ما يكشف خواء زعم “ترامب” بعد الفشل ، وقوله أن هذه العملية لن تتكرر ، وتطميناته الفارغة لقيادة قطر ، التى تعد فى التصور الأمريكى المعلن حليفا رئيسيا لواشنطن من خارج حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وعلى أراضيها قاعدة “العيديد” أكبر قواعد أمريكا الجوية خارج حدودها ، ولم يطلق منها صاروخ اعتراضى واحد ردا على الغارات “الإسرائيلية” ، كما حدث ـ مثلا ـ وقت الضربة الصاروخية الإيرانية الشهيرة ، بينما إدعت إدارة “ترامب” بأثر رجعى ، أنها لم تكن تعلم بنية ولا وقت تنفيذ الضربة “الإسرائيلية” ، وأنها علمت فقط عند التنفيذ ، وطلب “ترامب” من مبعوثه “ستيف ويتكوف” إبلاغ القطريين للتحذير ، وهو ما نفاه رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطرى “الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثانى” ، وقال بوضوح ، أن الدوحة لم تتبلغ بالتنبيه الأمريكى إلا بعد عشر دقائق من حدوث انفجارات المبانى السكنية المستهدفة ، وبعد أن كان الخبر انتشر فى الدنيا كلها ، وأى مبتدئ فى الجغرافيا ، يعرف أن الدوحة تبعد عن أقرب قاعدة جوية “إسرائيلية” بما يزيد على 2200 كيلومترا ، وأن قطر تفصلها عن كيان الاحتلال أربع دول عربية ، طارت فوقها القاذفات “الإسرائيلية” وتزودت بالوقود جوا ، وإذا سلمنا جدلا بأن “رادارات” جيوش هذه الدول لم تلتقط ولا رصدت ، فماذا عن نحو ستين قاعدة ومنشأة عسكرية أمريكية فى المنطقة الفاصلة ، وفى داخل فلسطين المحتلة ذاتها ؟ !! .
وفوق هذه الألغاز وخفاياها الظاهرة المغزى ، فإن العلم الأمريكى المسبق بالضربة “الإسرائيلية” لا يبدو موضعا لشك عند عاقل ، فقبل الضربة بأيام ، كان “ترامب” قد أعلن عن ما أسماه صفقته لوقف الحرب فى “غزة” ، وادعى أنها ولدت فى رأسه “البرتقالى” بينما كان يلعب “الجولف” مع “ويتكوف” ، وأضاف واثقا أن “نتنياهو” يوافق عليها ، ولم يكن ذلك إلا خداعا بدائيا ، فالصفقة فى الأصل هى اقتراح من “نتنياهو” نفسه ، نقله صفيه ووزيره للشئون الاستراتيجية “رون ديرمر” إلى “ويتكوف” ، ونصح بأن يعلنها “ترامب” بنفسه وباسمه ، وأن يطلب من “حماس” الإفراج فورا عن كل الأسرى والرهائن “الإسرائيليين” أحياء وأمواتا ، ودونما مقابل غير إطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين ، والوقف المؤقت لعملية اجتياح واحتلال وتدمير مدينة “غزة” ، والبدء فى مفاوضات حول الشروط النهائية ، وأولها نزع سلاح “حماس” ونفى قادتها ، مع تعليق الانسحاب “الإسرائيلى” من غزة على شرط تشكيل حكومة فلسطينية جديدة تضمن الأمن الكامل لكيان الاحتلال ، وكان بديهيا أن تتحفظ حركة “حماس” ، وأن تطلب ضمانات أكبر من وعد شفهى يقطعه “ترامب” (!) ، وكان الرئيس الأمريكى يعلم بذلك طبعا ، ووجه علنا ما أسماه “التحذير الأخير” لحركة “حماس” ، وكان يعلم ـ طبعا ـ بعقد اجتماع لوفد “حماس” المفاوض فى الدوحة لمناقشة الصفقة ، ويبدو ظاهرا من خط سير الحوادث ، أنه أراد تدمير قيادة “حماس” عقابا لها على موقفها المعاند ، بعد أن زين له “نتنياهو” عملية اغتيال “قادة حماس” المفاوضين جميعا ، فتم تنفيذ الضربة المتفق عليها ، وعلى أن يحتفظ “ترامب” بمسافة صورية تفصله عن التفاصيل ، يهنئ بطله “نتنياهو” إذا نجحت الضربة كما كان يتوقع ، أو أن يفتعل قلقا وحزنا إذا فشلت ، وهذا ما جرى بالضبط ، فبعد أن قالت مصادر “إسرائيلية” أنها حصلت على ضوء أخضر أمريكى لتنفيذ الضربة فور وقوعها ، عاد “نتنياهو” مع تبين الفشل إلى نغمة أخرى ، زعم فيها أن العملية كانت “إسرائيلية” مستقلة تماما (!) .
ولم ينكر “ترامب” أبدا ، ولا أنكر المتحدثون باسمه ، أنه يريد اغتيال قادة “حماس” جميعا ، وأيا ما كانت محال إقاماتهم أو نشاطاتهم ، وبدا ذلك ظاهرا منصوصا عليه فى بيانات البيت الأبيض بعد وقوع الضربة ، بينما تصور “ترامب” كعادته المبالغة فى قدراته الشخصية ، أن بوسعه احتواء آثار ما جرى عند “قطر” وغيرها من حلفاء الخليج ، الذين قدموا له منحا واستثمارات بتريليونات الدولارات ، وقدم هو ـ بالمقابل ـ وعودا فارغة بالحماية ، تبين أنها محض سراب ، خصوصا حين يتعلق الأمر بالكيان “الإسرائيلى” ، الذى من حقه ـ حسب “ترامب” ـ أن يصول ويجول فى المنطقة كلها ، وأن يفرض سيادته على الجميع أعداء وأصدقاء ، وقد كانت الطائرات “الإسرائيلية” تضرب فى “غزة” ولبنان وسوريا وتونس واليمن فى نفس يوم العدوان على قطر ، وهو بعض ما دفع “الشيخ محمد بن عبد الرحمن” إلى وصف “نتنياهو” بأنه “لاعب مارق” ، لايريد ـ فقط ـ إعادة تشكيل ما يسميه “الشرق الأوسط الجديد” ، بل يريد “إعادة تشكيل منطقة الخليج” أيضا ، وقد تمت الضربة “الإسرائيلية” بعلم مسبق أكيد من واشنطن ، ونقلت “واشنطن بوست” عن مسئول أمريكى أن “إسرائيل أخطرت الجيش الأمريكى ببعض خطط العمل العسكرى قبل الضربة” ، وإن راوغ المسئول بالقول أن “الإخطار كان غامضا ولم يذكر أهدافا أو مواقع” ، فيما راح “ترامب” نفسه يغسل يديه ، وقال على منصته “تروث سوشيال” ، أن “الهجوم على قطر قرار اتخذه نتنياهو ، وليس لى دخل به” ، وإن عاد “ترامب” فى التغريدة نفسها ، وعلى طريقة “يكاد المريب يقول خذونى” ، وأضاف نصا “أن الهجوم على الدوحة يمكن فى اعتقادى أن يكون بمثابة فرصة للسلام”.
وما جرى فى قطر ، يقبل التكرار طبعا على أراضى الدول العربية الأخرى ، وحتى فى عواصم الخليج الأوثق صلة بواشنطن ، وقد لا تعنى بيانات الاستنكار والإدانة والتضامن شيئا كثيرا ، اللهم إلا إذا توافرت إرادة سياسية غير منظورة ، تراجع أوضاع النظم كلها ، وتستعيد الحقائق الأصلية الظاهرة لكل ذى عينين ، فالكيان “الإسرائيلى” لايرى سيادة لدول ولا حرمة لحدود عربية ، وقناعته الراهنة ، أن مبدأ السيادة محجوز فى المنطقة للكيان وحده ، وأن السلام الموهوم مع الكيان لا يحمى أحدا من عقابه ، وأن يد “إسرائيل” هى ذاتها يد أمريكا ، وأن “المتغطى بالأمريكان عريان” ، وهذه هى الحقيقة الكبرى الباقية قبل ضرب “قطر” وبعده ، فاتفاقات السلام والتطبيع القائمة ليست سوى صكوك استسلام ، والتعاهد “الإبراهيمى” لا يوفر أمانا لأحد ، والكل سواء على حبل المقصلة “الإسرائيلية” الأمريكية .
وفى وهج انفجارات النار التى تجتاح المنطقة ، لا يصح إلا ما كان ويبقى صحيحا فى مطلق الأحوال ، وأوله أن المقاومة وحدها هى الفرقة “الناجية” من نار الدنيا وعذاب الآخرة ، وقد تضرب المقاومة هنا أو هناك ، لكنها تبقى الأمل الوحيد فى يقظة الأمة المهانة واسترداد كرامتها ، وقد أفلت عدد من قادة المقاومة بالخارج من مصير الاغتيال فى الضربة الأخيرة ، لكن استشهاد القادة عموما ، لا يعنى أبدا نهاية المقاومة ، وقد استشهد عشرات القادة الكبار ، وكانت الدماء الزكية وقودا يلهب المقاومة ، ويدفع بأجيالها الشابة إلى القتال بعزيمة لا تلين ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا ، ويدرك الغافلون أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وأن الجيوش التى تترك أسلحتها للصدأ ، سوف تدهمها الحروب من حيث لا تحتسب .
Kandel2002@hotmail.com