الرئيسيةمقالات الرأي

عماد أحمد العيسى يكتب : اليمن السعيد بين باب المندب والقرن الإفريقي

بقلم عماد أحمد العيسى – كاتب وإعلامي فلسطيني

لم تعد التطورات المتسارعة في اليمن مجرد شأن داخلي أو امتدادًا للصراع الأهلي المستمر منذ سنوات، كما يحلو للبعض تصويره، بل أصبحت جزءًا رئيسيًا من مشروع إعادة تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة. فاليمن اليوم يقع في صدارة معركة جيوسياسية كبرى، ترتبط مباشرة بالسياق الإقليمي والدولي، وبالممرات البحرية الحيوية التي تتحكم بالتجارة العالمية وأمن الطاقة.

 

إن أي قراءة للوضع اليمني بمعزل عن “البرنامج التنفيذي للشرق الأوسط الجديد” الذي تتبناه الولايات المتحدة، ستبقى قراءة ناقصة. فهذا المشروع طويل المدى لا يتأثر بتغير الإدارات أو الأحزاب، بل يستند إلى مركز قرار ثابت يُشار إليه عادة بـ”الدولة العميقة”. هذا المركز هو الذي يرسم اتجاهات التحرك الأمريكي في المنطقة، ويوجّه الأدوات الإقليمية، وعلى رأسها الكيان الإسرائيلي.

 

وفي هذا السياق يأتي الاعتراف الإسرائيلي بما يسمى “أرض الصومال” كخطوة ليست دبلوماسية فقط، بل استراتيجية بامتياز. فالتواجد على الضفة الإفريقية لمضيق باب المندب يتيح لتل أبيب موقعًا يمكّنها من مراقبة حركة الملاحة، والتأثير على خطوط التجارة الدولية، وتهديد المدخل الجنوبي لقناة السويس، وهو ما يجعل أحد أهم الممرات البحرية في العالم عرضة للضغط السياسي والعسكري.

 

تاريخيًا، لم تتحرك إسرائيل في الإقليم إلا بتوجيه مباشر من واشنطن، سواء في لبنان أو سوريا أو الأراضي الفلسطينية أو الخليج والبحر الأحمر. ولذلك فإن دورها الحالي ليس مستقلًا، بل جزء من استراتيجية أمريكية تستخدم تل أبيب كأداة تنفيذية دقيقة، لا سيما بعد تراجع مكانتها الاستراتيجية إثر تطورات غزة الأخيرة.

 

يُعد مضيق باب المندب الخاصرة الجنوبية للأمن القومي العربي، والشريان الذي يصل البحر الأحمر بالمحيط الهندي. ومن يملك القدرة على التأثير في هذا المضيق، يملك بطبيعة الحال ورقة ضغط مباشرة على مصر والسعودية، وربما على الاقتصاد العالمي بأسره.

 

ولهذا تتقاطع التحركات الإسرائيلية مع النفوذ الإماراتي في الموانئ الجنوبية لليمن وفي جزيرة سقطرى، ما يمنح تل أبيب حضورًا غير مباشر في قلب البحر الأحمر. هذا الحضور يمكّنها من التأثير في طرق التجارة القادمة من الخليج وإيران، ويضيف ورقة ضغط إضافية يمكن استخدامها عند الحاجة، بما في ذلك تلويحها بتهديد مضيق هرمز.

 

من هنا، لم يعد اليمن يُنظر إليه كدولة مستقلة تواجه تحديات داخلية، بل كساحة وظيفية ضمن مشروع أوسع يهدف إلى إضعاف الدولة اليمنية، وعزل النفوذ الإيراني، وتشجيع المشاريع الانفصالية في الجنوب، وإنتاج كيانات ضعيفة قابلة للاحتواء. هذه الكيانات تضمن السيطرة على السواحل والموانئ، وتحول دون قيام دولة يمنية موحدة قوية.

 

كما لا يمكن تجاهل ما يجري في المكلا والموانئ الجنوبية، إذ يعكس هذا المشهد بوضوح الخلافات المتصاعدة داخل التحالف السعودي–الإماراتي. فدعم أبوظبي للقوى الانفصالية يقابله استهداف سعودي لشحنات السلاح، في مؤشر على إدراك المملكة لخطورة مسار يتجاوز حدود التنسيق التقليدي، وقد يضعها في مواجهة استنزاف استراتيجي طويل الأمد.

 

في المقابل، تواصل إيران دورها المركزي بدعم أنصار الله، وتستخدم اليمن كورقة ضغط في صراعها المفتوح مع الولايات المتحدة وحلفائها. أما تركيا، التي سعت إلى تعزيز نفوذها في القرن الإفريقي، فتواجه هي الأخرى محاولات للحد من هذا النفوذ لحساب شبكة السيطرة على الممرات البحرية والموانئ الحيوية.

 

إن التوازنات اليوم لا تُحسم فقط في ميادين القتال، بل تُدار أيضًا في الكواليس الدبلوماسية والتحركات العسكرية والمينائية. فالدول الكبرى باتت تخوض صراعاتها عبر خرائط النفوذ، ومواضع السيطرة على الموانئ والمضائق .

 

اليمن اليوم يشكّل “كماشة جيوسياسية” تُطبق شمالًا وجنوبًا على الإقليم؛ من سوريا ولبنان والعراق، مرورًا بالبحر الأحمر، وصولًا إلى القرن الإفريقي. وهذه الكماشة لا تستهدف اليمن وحده، بل تضغط على الأمن القومي المصري عبر قناة السويس، وتحاصر السعودية من الجنوب، وتضع إيران وتركيا أمام حسابات أكثر تعقيدًا.

 

إن البرنامج التنفيذي للشرق الأوسط الجديد، والذي يُدار من مركز القرار الأمريكي، يعتمد على شبكة أدوات تمتد من إسرائيل إلى الإمارات، مرورًا ببعض القوى المحلية في اليمن، فضلًا عن أطراف إقليمية ودولية أخرى، لضمان السيطرة المستدامة على مفاصل المنطقة.

 

الأيام المقبلة ستكون مفصلية؛ فالصراعات باتت تُدار عبر السيطرة على الموانئ والمضائق، قبل إطلاق الرصاصة وبعدها. واليمن لم يعد مجرد ساحة مواجهة، بل عقدة استراتيجية مركزية في صراع دولي يحدد مستقبل البحر الأحمر، وأمن الجزيرة العربية، وتوازنات الإقليم.

 

إن إدراك هذه الحقيقة هو المدخل الأساس لفهم المشهد كاملًا، وإدراك أن ما يبدو أحداثًا محلية ليس سوى جزء من خريطة أكبر لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، حيث تُكتب الحروب على الخرائط قبل أن تُطلق طلقتها الأولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى