لانا أو شياو لان تكتب : للمرة الأولى فيلم وثائقي من إنتاج CGTN يشارك في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي
عرضٌ يسلّط الضوء على التبادل الثقافي بين الصين والعلم العربي من خلال سردٍ إنساني

بقلم: لانا أو شياو لان – مبدعة رئيسية في الفيلم الوثائقي «الأرض العزيزة»
عندما تلقّى فيلم «الأرض العزيزة» إشعار الاختيار الرسمي، لم تكن أولى أفكاري “الوصول” بل “الحوار”. فهذا الفيلم الوثائقي، الذي يتخذ من تفاصيل الحياة اليومية منطلقاً ومن الإنسان محوراً، سيلتقي جمهوره العربي في القاهرة.
يشارك الفيلم في قسم «البانوراما الدولية» ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهي المرة الأولى التي يصل فيها فيلم وثائقي من CGTN (سي جي تي إن) إلى هذه الفئة. وعلى الصعيد الشخصي ، فإنّ عودتي إلى المدينة التي عشتُ وتعلّمتُ فيها سابقاً تُشبه عودةً إلى ذاكرةٍ تتحدث لغتها الأم: لغة السينما.

أما بالنسبة إلى CGTN فإن هذه المشاركة تمثّل خطوة جديدة في سرد الحكاية الصينية داخل فضاء المهرجانات العالمية، بأسلوب بصري أكثر اتزانًا وواقعية، بما يدفع نحو مزيد من الفهم المتبادل بين الصين والعالم العربي.
وجهة العدسة: من “تفسير العالم” إلى “الإصغاء إليه”
صُوِّر فيلم «الأرض العزيزة» في حيٍّ قديم ذي طابعٍ أزرق وأبيض في إقليم شينجيانغ بالصين. تتبعُ الكاميرا تفاصيل صغيرة تتبدّل مع تعاقب الفصول: دفء الصباح ورائحة الحياة، مروءة الجيران، تقلّب الأدوار داخل الأسرة بين الصراع والمصالحة، وخيارات الشباب بين الحلم وضرورات الواقع… حرصنا خلال التصوير على تقليص حضور المؤلف، تاركين للمشاهد أن يبلغ بنفسه العاطفة والحُكم. لذلك لا يسعى الفيلم إلى “إثبات” شيء، بل يطرح ثلاثة أسئلة بسيطة: كيف نتعامل مع العالم؟ وكيف نتعامل مع الآخر؟ وكيف نتعامل مع أنفسنا؟
تمحورت نقاشات الجمهور حول كلماتٍ مثل “الأسرة”، “الكرامة”، و”الزمن”، وهي مفاتيح تتجاوز الفوارق الثقافية لتلتقي في صالة السينما كجسرٍ من التعاطف الإنساني. ومن هنا، ازددتُ يقينًا بأن قيمة الفيلم الوثائقي لا تكمن في رسم صورةٍ ضخمة لـ “الآخر”، بل في النظر إلى الإنسان العادي بصبرٍ واعتدال واحترام.

دلالة مهرجان القاهرة: أن تُفهَم، وأن ترغب في الفهم
في القاهرة، لا يُختزل المهرجان في السجادة الحمراء أو التصفيق، بل يشبه مدرسةً متنقلة. اختيارات الأفلام فيه تركّز على الإنسان والواقع، وعلى السرديات الجديدة، وتذهب النقاشات بعد العروض مباشرةً إلى عمق البنية الدرامية والإيقاع وتطوّر الشخصيات، كما يعكس التنظيمُ الدقيق وجودةُ الترجمة احترامًا متبادلًا بين صنّاع الأفلام والجمهور. وبالنسبة إليّ، فإن اصطحاب «الأرض العزيزة» إلى القاهرة واللقاء المباشر مع المشاهد العربي كان بمثابة رحلةٍ متبادلة نحو الفهم “أن أُفهَم، وأن أرغب في الفهم”. حملنا إلى ضفاف النيل تفاصيل حياةٍ صادقةٍ ومحسوسة، وعدنا من المدينة بفهم أعمق لصورة الإنسان وللغة الصورة نفسها.
جسر الصورة: من «أقنعة وكنوز» إلى «الأرض العزيزة»
ليست هذه المرة الأولى التي أحمل فيها عملًا فنيًا إلى العالم العربي. فقد قدتُ سابقًا فيلم «أقنعة وكنوز» الذي اتخذ من الآثار وتبادل الجماليات مدخلًا لإبراز أسئلةٍ وأجوبةٍ بين حضارتين عريقتين: الصينية والمصرية، في حقول الآثار والإنسانيات والفنون. منذ تلك التجربة ازددتُ إيمانًا بأن الاتصال الثقافي الفاعل لا يقوم على “شدة السرد” بقدر ما يقوم على “عمق الفهم”. واليوم، مع ترشيح فيلم «الأرض العزيزة» ضمن قسم «البانوراما الدولية» أرى في ذلك امتدادًا لهذا الجسر البصري الذي نبنيه — جسر لا يربط الجغرافيا فحسب، بل يربط القلوب أيضًا.
بداية جديدة: الحكاية التي وجدتها في الصين The Story I Found in China
كما أودّ اغتنام هذه الفرصة للتعريف بمشروعنا المقبل: سلسلة وثائقية-درامية من ثلاث حلقات مدة كل منها 45 دقيقة، بعنوان «The Story I Found in China».
نرغب في توجيه الدعوة إلى فنانين مرموقين من الدول العربية للمشاركة في تصوير الفيلم الوثائقي، والقيام برحلة تتبع خيطا إنسانيا يقوم على البحث، التجربة، اللقاء، الإصغاء، والتفكير. يمزج المشروع بين الأسلوب السينمائي الدرامي والتوثيق الواقعي، بما يفتح آفاق تعاون أعمق مع شركائنا في مصر والعالم العربي في مجالات التخطيط والإنتاج والتوزيع المشترك بهدف تقديم صورةٍ أكثر دفئًا وصدقًا عن الإنسان الصيني إلى جمهورٍ أوسع.
نحو المستقبل: المحتوى هو الجوهر، والآلية هي الرافعة
أتطلّع إلى أن تكون المهرجانات السينمائية جسورًا، والمنصّات الإعلامية رابطًا، والمشاريع المشتركة حواملَ حقيقية لتوسيع آفاق التعاون بين الصين والعالم العربي في مجالي الوثائقيات والإنتاج السمعي البصري.
نطمح إلى نقل هذا التعاون من حدود الفكرة إلى سلسلة تكاملية شاملة تشمل: التخطيط والإنتاج المشترك، الترجمة والتعريب، العروض الدورية وتدريب الكفاءات، ترميم المواد البصرية وأرشفتها الرقمية.
بهذا، نسعى إلى بناء منظومة متكاملة تمتدّ من تطوير المحتوى إلى انتشاره عالميًا، بحيث تصل المزيد من الأفلام الوثائقية الصينية، الغنية بالتفاصيل المحلية والمشاعر الإنسانية المشتركة، إلى الجمهور العربي، وفي المقابل، تُعرض روائع السينما العربية أمام المشاهد الصيني.
نريد أن نؤسس لآلية مستدامة تضمن إنتاج أعمالٍ قابلة للإحساس والتأثير، كي لا تبقى اللقاءات مجرّد صدفة، بل تتحوّل إلى تواصلٍ متكررٍ ومثمر.
فلنأمل معًا أن نجد، في قصص بعضنا البعض، ما يُتيح لنا أن نرى الإنسان، ونرى الخير، ونرى الأمل.




