الرئيسيةمقالات الرأي

محمد ابو طالب يكتب : حين يتحول التمكين إلى وأدٍ ناعم

بقلم : محمد ابو طالب 

في الجاهلية كان الوأد قاسيًا، تُدفن فيه البنات تحت التراب خوفًا من العار، وكان الفعل صريحًا لا يخجل من قسوته. أما اليوم، فقد أصبح الوأد أكثر نعومة في شكله، لكنه أشد قسوة في معناه. لم يعد يُمارس بالتراب، بل بالشعارات، ولم يعد يُرتكب في الخفاء، بل يُقدَّم في صورٍ براقة تحمل أسماء مثل “التمكين” و”الدمج” و”التنوع”، بينما جوهره إقصاءٌ ممنهج وتهميشٌ مغلف بعبارات الإنسانية.

 

منذ عام ٢٠١٥ وحتى ٢٠٣٠، يعيش ملف تمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر واحدة من أكثر مراحل الالتباس التاريخي عمقًا. فبينما تُرفع شعارات العدالة والمساواة والتنوع البشري، يُختزل التمثيل الفعلي في نمط واحد؛ حيث تكرّس الاختيارات الرسمية في البرلمان والمجالس والسياسات لصالح تمثيل النساء فقط، وكأن المجتمع لم يرَ في الإعاقة إلا وجهًا واحدًا أنثويًا.

 

ففي البرلمان السابق لعام ٢٠٢٠، كان معظم من مثّلوا فئة الإعاقة من السيدات، وفي القائمة الحالية للانتخابات القادمة لم يظهر أي رجل من ذوي الإعاقة. وكأننا أمام مشهد جديد من “وأدٍ ناعم” يُمارس في ثوبٍ من التمكين، حيث يُغيب نصف التجربة الإنسانية باسم تمثيلها.

 

ولم يتوقف هذا عند حدود البرلمان، بل امتد ليشمل مستويات صنع السياسات العامة والإدارة التنفيذية لملف الإعاقة. فالمجلس القومي لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة تترأسه سيدة، وكذلك الصناديق الكبرى الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة مثل صندوق “عطاء” وصندوق “قادرون باختلاف”، وكأن الإعاقة في نظر المؤسسات أصبحت قضية تخص المرأة وحدها دون الرجل. وهنا يُصبح السؤال أكثر إيلامًا: أين ذهبت العدالة في التنوع داخل الفئة الواحدة؟ وكيف تحوّل مبدأ الشمول إلى إقصاء جديد؟

 

إن هذا الشكل من التمثيل لا يُنصف المرأة كما يظن البعض، بل ينتقص من حقها هي أيضًا. لأنه في الوقت الذي تُرفع فيه السيدات ذوات الإعاقة إلى مواقع تمثيلية، تُسحب منهن المقاعد التي خُصصت أصلًا للدفاع عن قضايا المرأة والمساواة الجندرية. والنتيجة أن المرأة تخسر موقعها الطبيعي في مناصرة النساء، والرجل من ذوي الإعاقة يُحرم من حقه في تمثيل تجربته الخاصة، ليخسر الطرفان معًا تحت لافتة “التمكين”.

 

الواقع أن أغلب تلك الاختيارات لم تُبنَ على معايير معلنة أو سجل نضالي حقيقي في الدفاع عن قضايا الإعاقة أو المرأة، بل على موازنات سياسية داخل القوائم، تُتيح مساحات أكبر للشخصيات العامة، فتُختصر الإعاقة في أرقام وجداول لا في نضال وتجارب. وهنا يتحول التمكين إلى عملية “تجميل سياسي” تُرضي الشكل ولا تقترب من الجوهر، فتُدفن الكفاءات، ويُقصى الوعي، ويُصنع مشهد مثالي مزيّف يوحي بالعدالة بينما يكرّس الإقصاء.

 

أما على مستوى السياسات التنفيذية، فإن غياب التنوع في مواقع صنع القرار جعل الخطط الوطنية الخاصة بذوي الإعاقة تفتقر إلى الرؤية المتوازنة. إذ لا يمكن لملف الإعاقة أن يُدار من منظورٍ واحد، لأن الإعاقة ليست جنسًا أو فئةً، بل تجربة إنسانية متعددة تحتاج إلى أصواتٍ تمثل واقعها بتعدد أبعاده الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. فحين يُغيب صُنّاع القرار الرجال من ذوي الإعاقة، فإنهم يغيبون معهم نصف الصورة، ونصف المعاناة، ونصف الحلول الممكنة.

 

التمكين الحقيقي لا يكون بمنح ألقاب أو مناصب، بل بإتاحة المشاركة الفعلية لكل من يملك الخبرة والتجربة والوعي. العدالة في التمثيل لا تتحقق عندما نحصر الفئة الواحدة في نصفها، بل حين نعطي لكل صوتٍ حقه في أن يُسمع، ولكل تجربةٍ حقها في أن تُعبّر عن نفسها.

 

حينها فقط يمكن أن نقول إننا تجاوزنا الوأد، وبدأنا بناء إنسانيةٍ جديدة ترى في الاختلاف طاقة لا عبئًا، وفي التنوع ثراء لا تهديدًا. أما أن يُمارس الإقصاء باسم التمكين، فذلك هو الوأد الحقيقي، لكنه وأد ناعم، يُدفن فيه التنوع تحت عبارات رسمية، ويُغطى التراب هذه المرة بابتسامات ودعوات وصورٍ في الاحتفالات.

 

إنه وأد لا يُمارس بالتراب، بل بالكلمات الجميلة التي تُخدّر الوعي العام، وتُقنع الناس أن العدالة تحققت، بينما الحقيقة أن التنوع قد دُفن حيًّا، مرة أخرى. هل تقبل المرأة المصرية — رمز العدالة والإنصاف — أن يكون البرلمان كله من الرجال فقط؟

هل ترضى أن تُقصى النساء تمامًا بحجة أن “الرجال أكفاء ومؤهلون”؟

هل توافق أن تُدار الحكومة ومحافظات مصر بوزراء ومحافظين رجال فقط؟

 

إن كانت الإجابة لا — فبأي منطق نقبل اليوم أن يُقصى الرجال ذوو الإعاقة تمامًا من المشهد النيابي، وأن يتحول التمثيل البرلماني إلى صوتٍ واحدٍ بلونٍ واحدٍ ونوعٍ واحد؟

 

العدالة ليست أن يحلّ وجهٌ واحد محلّ وجهٍ آخر، بل أن يُفتح الباب لكل صوتٍ يستحق أن يُسمع.

فتمكين فئة على حساب إقصاء أخرى ليس تمكينًا… بل نسخة جديدة من التمييز بوجهٍ مختلف!

 

وحتى نُكمل المشهد “بروح العدالة الجديدة”،

تعالوا نقلب الطاولة تمامًا،

ولنجعل برلمان ٢٠٣٠ كله من النساء فقط — بلا رجلٍ واحد —

حتى تكتمل لوحة المساواة بالمقلوب ويصفق الجميع للإنصاف الزائف!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى