عرب وعالم

108 أعوام على وعد بلفور المشؤوم: بداية المأساة الفلسطينية وولادة الكيان الصهيوني

أيمن عامر

في مثل هذا اليوم، الثاني من نوفمبر، تحلّ الذكرى الـ108 لإعلان بلفور المشؤوم، ذلك التصريح الذي منح بموجبه الاستعمار البريطاني لليهود حقًّا مزعومًا في إقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، فاتحًا بذلك الباب أمام واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث.

 

لقد شكّل “إعلان بلفور” الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917، اللبنة الأولى في المشروع الغربي الهادف إلى زرع كيان غريب في قلب المشرق العربي، تحقيقًا لأطماع الحركة الصهيونية العالمية، وتكريسًا لهيمنة القوى الاستعمارية على المنطقة.

 

جاء الإعلان في رسالة بعث بها وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد روتشيلد أحد أبرز زعماء الحركة الصهيونية، بعد مفاوضات طويلة استمرت ثلاث سنوات بين الحكومة البريطانية والقيادات الصهيونية، تمكن خلالها الصهاينة من إقناع بريطانيا بأن وجودهم في فلسطين يخدم مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.

 

ولم يكن وعد بلفور خطوة بريطانية منفردة، بل حظي بدعم غربي واسع؛ إذ وافقت عليه الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا عام 1918، وتبنّاه المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو عام 1920، الذي منح بريطانيا الانتداب على فلسطين، لتبدأ بتنفيذ الوعد فعليًا. وفي عام 1922، أقرّ مجلس عصبة الأمم صك الانتداب، الذي دخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923، ليصبح وعد بلفور وعدًا دوليًا نفّذته القوى الكبرى على حساب الشعب الفلسطيني.

 

أما الموقف العربي، فقد جاء مشحونًا بالدهشة والغضب والاستنكار، إذ أدرك العرب مبكرًا خطورة هذا المشروع على مستقبل فلسطين والمنطقة. وسعت بريطانيا إلى امتصاص هذا الغضب برسائل مهدئة إلى الشريف حسين، زاعمة أنها لن تسمح بالاستيطان إلا بما لا يضر بمصالح السكان العرب، بينما كانت على الأرض تمهّد الطريق لهجرة اليهود وتنظيم استيطانهم وحمايتهم، بإشراف مباشر من حاييم وايزمن، خليفة هرتزل، ومؤسس المشروع الصهيوني السياسي.

 

ورغم الوعود الزائفة، لم يقف الشعب الفلسطيني مكتوف الأيدي، بل خاض نضالًا مستمرًا في وجه المشروع الصهيوني منذ اللحظة الأولى، فاندلعت ثورة البراق عام 1929، ثم الثورة الكبرى عام 1936، لتؤكد أن الفلسطينيين متمسكون بأرضهم وحقهم التاريخي فيها.

 

من جانبها، استغلت الحركة الصهيونية وعد بلفور لتكريس شرعيتها المزعومة، وجعلته أساسًا قانونيًا لمطالبتها بإقامة “الدولة اليهودية”، ترجمةً للبرنامج الذي أقرّه المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897. وقد انعكس ذلك بوضوح في وثيقة إعلان قيام إسرائيل عام 1948، التي نصّت صراحة على “الانبعاث القومي في بلد اعترف به وعد بلفور”.

 

وبذلك تحوّل الوعد إلى حقيقة مأساوية حين أُقيم الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين في الخامس عشر من مايو 1948، بدعم القوى الاستعمارية، ليكون أول كيان في التاريخ الحديث يُقام على أرض مغتصبة ويُمنح اعترافًا دوليًا فوريًا، في سابقة غير مسبوقة في النظام العالمي.

 

وعند صدور الإعلان، لم يكن في فلسطين سوى نحو 50 ألف يهودي من أصل 12 مليون يهودي في العالم، مقابل أكثر من مليون وستمائة وخمسين ألف عربي فلسطيني يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين، لكن بريطانيا تجاهلت وجودهم وحقوقهم السياسية والاقتصادية، مكتفية بذكر “الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية”.

 

لقد كان وعد بلفور، ولا يزال، جريمة سياسية وأخلاقية، مهدت لقرن من المعاناة الفلسطينية، وكرّست مأساة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا — مأساة شعبٍ اقتُلع من أرضه بوعدٍ كتبه مستعمرٌ لصالح حركةٍ غريبة عن هذه الأرض، لتبقى ذكراه عنوانًا للظلم والاستعمار الذي لم ينتهِ بعد.

 

نص إعلان بلفور كما ورد في الوثائق البريطانية:

 

 وزارة الخارجية البريطانية

لندن، 2 نوفمبر 1917

 

عزيزي اللورد روتشيلد،

 

يسرّني أن أبلغكم، بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية، وقد أقرّته الحكومة:

 

“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بوضوح أنه لن يُتخذ أي إجراء من شأنه الإضرار بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.”

 

المخلص لكم،

 

آرثر جيمس بلفور.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى