عبد الرحمن ربوع : مصير إدلب يستنزف الصبر الدولي

بقلم عبد الرحمن ربوع ، إعلامى سورى
لا معنى للتصريحات الروسية الرسمية المتكررة حول مصير منطقة إدلب ودعوات موسكو المتواصلة للحكومة التركية لإنهاء “المهمة” المتفق عليها بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان بإنهاء سيطرة هيئة تحرير الشام “هتش” المدنية والعسكرية في المنطقة، إلا أنّ الاتفاق حقيقي ومبرم، وإنْ كان غير معلن بشكل تفصيلي، ولم يطلع عليه عامة السوريين لكن اطلعت على بعض عناوينه بعض هيئات وفصائل المعارضة.
ومع أن الاتفاق الروسي التركي له جدول زمني، أو يُفترض ذلك، واضح أن الأتراك غير ملتزمين بهذا الجدول، وهناك مماطلة منهم أو من هتش، على الأرجح، إلا أن الأتراك أطالوه بصورة فجة جدًا إلى درجة التجميد، خصوصا منذ جائحة كورونا مطلع سنة 2020 وحتى اليوم. ويبدو أن الهيئة وقادتها والفصائل الدائرة في فلكها تنتظر معجزة سماوية أو كارثة طبيعية تبقيهم في إدلب وتعفيهم من الخروج منها لصالح النظام أو المعارضة، وقد حدث ذلك بالفعل مع الجائحة لكن لذلك نهاية حتمية لن تطول حتى وإن طالت الجائحة.
بطبيعة الحال ينكر الأتراك والهيئة معًا وجود تنسيقات بين الجانبين من أي نوع، مع أن المهمة المناطة بالأتراك، والتي تطوعوا لأدائها، ولم يطلبها منهم أحد، لسبب وجيه هو أن تركيا لا قِبَل لها بموجة نزوح جديدة لثلاثة أو أربعة ملايين سوري، غالبًا ما “سيندسّ” بينهم بضعة آلاف ممن يصنَّفون في أعلى قوائم الإرهاب الدولية والأممية، وتبعات ذلك من أخطار لا قِبَل لأي دولة في العالم بها، وبالذات تركيا التي تخوض صراعات محلية وإقليمية عديدة لا يبدو لها نهايات في الأفق.
لكن ومع وجود أكثر من ستين “قناة اتصال” في أكثر من ستين “نقطة مراقبة” للجيش التركي في محافظات إدلب وحلب وحماة واللاذقية، حيث تسيطر “هتش”، ومع الزيارات المتكررة والمعلنة وغير المعلنة لوجهاء المنطقة ومعهم مسؤولين مدنيين أو عسكريين من “هتش” لهذه النقاط ولقاءاتهم بقادتها الأتراك بصفة دورية منذ إنشاء هذه النقاط في تشرين الأول/أكتوبر 2017 وحتى اليوم، فهذا وحده كفيل بإثبات وجود اتصال وتواصل بين الجانبين وتفاهمات حول مصير المنطقة والذي نلحظ نتائجه بعملية “القصقصة” التي تقوم بها هتش لأذرعها الأكثر تطرفًأ، وملاحقتها التي لا هوادة فيها لخلايا وأعضاء تنظيم داعش، واللقاءات التلفزيونية والصحفية التي أجراها أبومحمد الجولاني قائد التنظيم وبالذات مؤخرًا في بعض الصحف الأمريكية؛ تشير بوضوح إلى أن التنظيم يسعى لحل أوضاعه دوليًا ومحليًا، ويبدي مرونة غير معهودة مع الخارج، على حساب تشدُّدٍ وتعنُّتٍ ملحوظيْن محليًا، خصوصًا من الناحية الأمنية مع خصومه المحليين وعناصره الأكثر تشدّدًا الذين تخلَّص أو يتخلَّص منهم، أو يتم تصفيتهم عبر الاستهداف الخارجي سواء بطيران التحالف الدولي أو طيران مجهول أو المفخخات التي تستهدفهم أثناء تنقلاتهم أو في عقر دورهم وأماكن إقامتهم.
لكن إلى متى يستمر الصبر الروسي على الاستراتيجية التركية التي تسير “بسرعة تقارب الصفر”، فذريعة الخوف من موجة نزوح هائلة لا قِبَل لتركيا وأوروبا والأمم المتحدة بها يمكن التعامل بتأمين خروج آمن ومؤقت إلى مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام في ريف حلب الشمالي، كما يمكن الاتفاق مع الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية لاستقبال أي عدد كان من الراغبين بالنزوح طلبًا للأمن والأمان.
وهذا لن يكون اختراعًا لا سابقة له، فقد تكرر مرارًا خلال السنوات السابقة حيث نزح مئات آلاف السوريين من مختلف المناطق الساخنة والمشتعلة، وتُرك مسلحو المعارضة أو مسلحو تنظيمي القاعدة أو داعش، ومن أراد البقاء معهم من الأهالي الذين كانوا غالبًا من أسرهم وعائلاتهم، ليواجهوا قوات النظام وحلفائها، كما حدث أيضًا في مناطق سيطرة تنظيم داعش في الجزيرة خلال حملة التحالف الدولي على التنظيم، حيث خرج معظم السكان وبقي عناصر التنظيم وذويهم لملاقاة مصيرهم على يد قوات التحالف، إلى أن انتهى المطاف بما تبقى منهم في بلدة الباغوز بريف دير الزور بين قتيل وأسير، وليدفع سكان محافظات الحسكة ودير الزور والرقة الثمن قتلًا وتهجيرًا وتدميرًا خلال حرب استمرت أقل من أربع سنوات من خريف 2014 إلى نهاية 2017، لكن على الأقل انتهت وفي وقت قياسي على غير المتوقع، حيث كان أكثر المتفائلين يتوقعون حربًا لعشر سنين على الأقل، لكنها لم تحتج حتى لنصف ذلك الوقت.
وليس الروس وحدهم من يضغط لإنهاء تواجد هيئة تحرير الشام في إدلب، فهذا رأي وموقف دولي عام، فالأمريكان والأوروبيون والعرب والسوريين أنفسهم يأملون ويسعون لإنهاء وجود التنظيم في سوريا و”تحييد” عناصره وخطره، كما أن “المصلحة الحقيقية” التي أشار إليها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مرارًا تتمثل في “إنهاء وجود التنظيم الإرهابي في إدلب”، والرئاسة التركية ذاتها أصدرت مرسومًا رسميًا في آب/أغسطس 2015 يصنّف الهيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، والذي جاء عقب إخطار صدر عن الأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2018 بإضافة الهيئة إلى قائمة المنظمات والأفراد ذوي الصلة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية.
وسبق ذلك تصريح لجاويش أوغلو في تشرين الأول/أكتوبر 2017 كشف فيه عن استراتيجية بلاده في إنهاء وجود التنظيمات المصنفة إرهابيًا في إدلب، بموجب اتفاقات وتفاهمات خفض التصعيد في سوريا بين روسيا وتركيا وإيران، عبر خطوة أولى تتمثل في الفصل بين فصائل المعارضة المعتدلة والفصائل الإسلامية المتشددة المصنفة إرهابيًا، رغم إعلان جبهة النصرة أو جبهة فتح الشام قطع علاقتها بتنظيم القاعدة رسميا في 2016، وتغيير اسمها إلى هيئة تحرير الشام، وهذا الفصل تمثّل في تمييز مناطق السيطرة، والخروج من غرف العمليات المشتركة، وقطع الاتصال والتنسيق بين الفصائل المعتدلة والمتشددة. فهم لاشك خطر بالأساس على تركيا كما أنهم خطر على إدلب وأهلها ونازحيها، ولم ننس بعد كمّ التهديدات القولية والعملية التي صدرت عن بعض مجموعات وعناصر الهيئة التي سبقت ورافقت الدخول التركي العسكري إلى سوريا في 2017، كما أنه تنظيم مصنف بالفعل بكل مسمياته وقياداته وعناصره في القائمة الحمراء الممنوعين من دخول تركيا والمطلوب اعتقالهم على أراضيها.
لكن هل لدى الروس أو غيرهم استراتيجية ممكنة التطبيق للتخلص من الهيئة وإنهاء وجودها في إدلب غير “الصبر” على الأتراك، وانتظارهم ليؤدوا التزاماتهم وتعهداتهم حيال التنظيم وحيال مستقبل إدلب؟. يبدو ذلك غير متاح، على الأقل حتى الآن، بسبب ترتيبات السياسة الدولية وتشعباتها وتقاطعاتها سواء في المنطقة وسوريا، أو على مدى جغرافي أبعد، فضلًا عن جائحة كورونا التي أحدثت زلزالًا قلب الاهتمامات السياسية الدولية وحَرَف الأولويات الاستراتيجية العالمية. ثم هناك طريق معتاد وأثبت فاعلية ونجاعة إلى حد ما في مواقف مماثلة سابقة ومعاصرة عبر التفاوض المباشر مع التنظيم نفسه والتنظيمات المشابهة .
وليست مسألة أفغانستان ببعيدة. وهاهم الأمريكان وحلفاؤهم على طاولة مفاوضات واحدة مع حركة طالبان بعد عشرين سنة من حرب ضروس، لينتهي الأمر بتفاهمات أطلقت يد الحركة في البلاد مقابل تعهدات بانتهاج سياسة مسالمة دوليًا، فيما قواعد الاشتباك والصراع داخل البلاد مفتوحة على كل الاحتمالات التي تنبئ بحرب أهلية مفتوحة بين الحكومة في كابول والحركة. فهل سيتم اللجوء إلى هذه الاستراتيجية التي ستمنح “هتش” هدنة مفتوحة مقابل علاقات حسن جوار تضبطها الأعراف والمواثيق ذات الصلة، وبشرط انخراطٍ بالعملية السياسية السورية التي ترعاها بالأساس الأمم المتحدة وترعاها في الجانب العسكري منها الدول الرئيسية المتدخلة في سوريا (روسيا وتركيا وإيران)؟، هذا ما يبدو لنا كمراقبين ومحللين ليبقى للواقع السوري المعقَّد حرية المآل غير المتوقع والمستحيل التنبؤ به.