عرب وعالم

أوروبا تتجه لتشديد أكبر منظومة هجرة منذ عقود

يستعد الاتحاد الأوروبي لمرحلة فارقة في إدارة ملف الهجرة، مع تصويت وزراء داخلية الدول الـ27، اليوم الاثنين، على ثلاث وثائق تشريعية جديدة تقدّمت بها «المفوضية الأوروبية» بهدف إعادة بناء سياسة الهجرة على أسس أكثر تشدداً. ويرى مراقبون أن ما يجري لا يمكن وصفه إلا بأنه «إعادة رسم لخريطة اللجوء في أوروبا»، بينما يراه آخرون انقلاباً على القيم التي بُني عليها الاتحاد.

ويأتي التصويت وسط ضغط متزايد من أحزاب اليمين واليمين المتطرف في دول عدة، حيث ترتفع الأصوات المطالبة بفرض سيطرة صارمة على الحدود الأوروبية، وإبعاد المهاجرين غير النظاميين، وإنشاء منظومة جديدة تقلل من قدرة اللاجئين على دخول أوروبا أو البقاء فيها.

منظومة جديدة: مراكز ترحيل خارجية وتشديد غير مسبوق

من بين المقترحات الثلاثة، يبرز إنشاء «مراكز عودة» خارج حدود الاتحاد الأوروبي، وهي منشآت تستوعب المهاجرين الذين رُفضت طلبات لجوئهم إلى حين إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية أو إلى دول ثالثة تعتبرها أوروبا «آمنة».
وتعدّ هذه الخطوة الأكثر إثارة للجدل، لأنها تسمح عملياً بنقل طالبي اللجوء إلى دول بعيدة، ما يُضعف قدرة المنظمات الحقوقية على مراقبة ظروف الاحتجاز والتعامل القانوني معهم.

ويشمل المشروع الثاني تشديد العقوبات على من يرفض مغادرة أوروبا بعد صدور قرار ترحيله، عن طريق تمديد فترات الاحتجاز الإجباري وتوسيع صلاحيات السلطات لتطبيق قرارات الإبعاد.

أما المشروع الثالث فيسمح بإرسال مهاجرين إلى دول ليست بلدهم الأصلي، بل إلى دولة تُعتبر «آمنة» وفق معايير الاتحاد، وهو ما تعتبره جمعيات حقوق الإنسان «هندسة بشرية» تُعرّض المهاجرين لخطر الترحيل إلى أماكن قد لا يتمتعون فيها بأي حماية.

خلافات عميقة بين الدول الأعضاء

على الرغم من أن المفوضية الأوروبية أعلنت أن «الإرادة السياسية متوفرة لدفع هذه الملفات»، فإن عدداً من الدول الكبرى لا تزال تُبدي اعتراضات.
فرنسا، على سبيل المثال، لا تزال تشكك في قانونية بعض الإجراءات وتأثيرها على التزامات باريس الدولية، بينما ترفض إسبانيا الخطة الخاصة بـ«مراكز العودة» بحجة أنها جُربت سابقاً في دول أخرى «ولم تقدم حلولاً واقعية ولا إنسانية».

وفي المقابل، تدفع دول مثل الدنمارك والنمسا وهولندا باتجاه إقرار القوانين بسرعة، معتبرة أن «السياسة الحالية فشلت»، وأن الاتحاد بحاجة إلى «أدوات ردع حقيقية».

الشارع الأوروبي ضاغط… ورقم 20% يزيد التوتر

ورغم انخفاض أعداد المهاجرين غير النظاميين بنحو 20% مقارنة بالعام الماضي، فإن حكومات أوروبية كثيرة ترى أن هذا الانخفاض لا يعكس الواقع الأمني والاجتماعي، وأن الخطر ما زال قائماً.
كما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة في عدد من دول الاتحاد إلى أن الهجرة تمثل أحد أعلى مصادر القلق لدى الناخبين، إلى جانب الاقتصاد والتوترات الدولية.

هذا الضغط الشعبي يدفع السياسيين، خصوصاً من التيارات اليمينية، إلى المطالبة بسياسات أكثر تشدداً، وهو ما جعل المفوضية تتحرك بوتيرة غير مسبوقة لطرح التشريعات الحالية.

توزيع اللاجئين… عقدة الملف

وبالتوازي مع التصويت على النصوص الثلاثة، تشهد بروكسل واحدة من أعقد المفاوضات المتعلقة بنظام توزيع طالبي اللجوء بين الدول الأعضاء.
فالهدف المعلن هو تخفيف الضغط عن دول الاستقبال الأولى مثل إيطاليا واليونان، عبر توزيع جزء من طالبي اللجوء على دول أخرى.

إلا أن العقبة الكبرى تكمن في رفض عدد من الدول استقبال أي لاجئين إضافيين.
بلجيكا، السويد، والنمسا أعلنت مواقف واضحة: «لن نأخذ طالبي لجوء من دول أخرى».
وهذا يعني أن الآلية الجديدة — التي تلزم الدولة الرافضة بدفع 20 ألف يورو عن كل طالب لجوء — ستكون صعبة التطبيق دون توافق سياسي أوسع.

وقال مسؤول أوروبي، مفضلاً عدم كشف اسمه، إن «قليلين فقط من الوزراء لديهم الجرأة للظهور أمام شعوبهم والإعلان عن قبول أعداد جديدة من اللاجئين»، مشدداً على أن التوصل لاتفاق «ضرورة ملحّة قبل نهاية العام».

قلق حقوقي وتحذيرات من «تجريد المهاجر من الإنسانية»

المنظمات الحقوقية لم تُخف قلقها من الإجراءات الجديدة، إذ وصفتها منظمة PICUM بأنها «تحويل للهجرة إلى ملف أمني بحت»، منتقدة ما وصفته بـ«تجريد المهاجر من إنسانيته».
وترى هذه المنظمات أن إرسال مهاجرين إلى دول ليست أوطانهم يمثل «خرقاً واضحاً» لمبدأ عدم الإعادة القسرية المعتمد دولياً.

كما حذرت جماعات حقوقية من أن «مراكز العودة» قد تتحول إلى مناطق احتجاز مغلقة، لا تخضع للمعايير الإنسانية، مما قد يجلب موجة انتقادات دولية للاتحاد الأوروبي.

مفترق طرق تاريخي

في النهاية، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام معادلة صعبة:
إما تمرير هذه التشريعات، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة أكثر صرامة في إدارة الهجرة، أو مواجهة معارضة سياسية وحقوقية قد تعرقل المشروع بالكامل.

ويرى محللون أن ما يجري حالياً هو «إعادة تعريف لسياسة الاتحاد الأوروبي» أكثر منه مجرد تعديل قوانين، لأن القرارات التي ستُتخذ اليوم قد تُشكّل الأساس الذي ستُبنى عليه سياسات الهجرة لعقد كامل على الأقل.

وبين ضغوط الشارع، وحسابات الحكومات، ومطالب المفوضية، ستحدد نتائج هذا التصويت ملامح مستقبل أوروبا في أحد أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى