الدكتور عادل عامر يكتب:غزة حاضرة وأوكرانيا غائبة ومسار لأقطاب متعددة

بقلم الدكتور عادل عامر
انطوت القمة على رهانات مهمة، نظرا لإدراك الدول الأوروبية مدى أهمية دول الخليج على مستوى الأمن والطاقة، على الرغم من شعور الجانب العربي بخيبة أمل إزاء المعايير المزدوجة التي يتبعها الأوروبيون، إذ يدعمون أوكرانيا ضد روسيا ولا يعترضون على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
إن قمة شنغهاي الخامسة والعشرون جسدت تحولاً استراتيجياً حاسماً في مسار التوازنات الدولية، حيث أظهرت قدرة التكتل على التحول من إطار إقليمي تقليدي إلى منصة متعددة الأبعاد تجمع بين التنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي والأطر الأمنية المشتركة. وقد أمنت المباحثات للأعضاء نفوذاً ملموساً في التعامل مع الملفات الإقليمية والدولية الأكثر تعقيداً، بما في ذلك الحرب الروسية–الأوكرانية والملف النووي الإيراني، مع تقديم بدائل استراتيجية تواجه الضغوط الغربية وتعزز مصالحهم المشتركة.
وفي ضوء هذه الديناميات، تفتح القمة آفاقاً مستقبلية واعدة أمام المنظمة لتصبح منصة محورية لصياغة استراتيجيات أمنية وسياسية واقتصادية مشتركة، قادرة على التأثير في النظام الدولي متعدد الأقطاب، وتمكن الأعضاء من لعب دور حاسم في إعادة توزيع النفوذ العالمي خلال العقود القادمة.
لم تكن قمة شنغهاي مجرد لقاء إقليمي بروتوكولي، بل جسدت خطوة نحو تشكيل فضاء دولي بديل تسعى من خلاله الصين وروسيا وشركائهما من آسيا الوسطى والشرق الأوسط لإعادة ترتيب موازين النفوذ العالمي، في وقت يشهد فيه النظام الدولي هزات متلاحقة بفعل الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية وأزمات الاقتصاد العالمي. ومن هنا تعكس القمة جملة من الدلالات السياسية والاقتصادية والأمنية والرمزية في آنٍ واحد، وذلك على النحو التالي:
– السياق الدولي والإقليمي: تنعقد قمة شنغهاي في ظل تصاعد التوترات بين القوى الكبرى، وخصوصاً بين الغرب والصين وروسيا. وقد تعكس القمة قدرة الأعضاء على التنسيق الاستراتيجي لمواجهة الضغوط الغربية المتزايدة، مع استمرار تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على أسواق الطاقة والأمن الغذائي، وتفاقم التحديات الإقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بما في ذلك الإرهاب والهجرة والتطرف.
– الصعيد الأمني: تعكس قمة شنغهاي التزام الدول الأعضاء بتعزيز التعاون وتوحيد الرؤى في مواجهة التهديدات الأمنية المشتركة خصوصاً فيما يتعلق بالإرهاب والجريمة المنظمة، إضافة إلى التحديات الأمنية العابرة للحدود. كما توفر القمة منصة لتنسيق الجهود الاستخباراتية وتبادل المعلومات وتطوير استراتيجيات مشتركة للتصدي لهذه التهديدات، بما يعكس رغبة الدول في حماية أمنها الإقليمي وتعزيز الاستقرار الداخلي.
– الدلالات السياسية: يحمل انعقاد القمة رسائل سياسية واضحة، إذ تؤكد الصين وروسيا من خلالها قدرة الدول الأعضاء على صياغة تحالفات مستقلة بعيداً عن التكتلات الغربية التقليدية مثل الناتو ومجموعة السبع. فضلاً عن التوجه نحو تعزيز التوافق الإقليمي وتقوية قدرات الأعضاء لتقليل الاعتماد على الغرب وإعادة رسم موازين النفوذ الدولي، بما يمنح الأعضاء أدوات أكبر للتأثير في النظام الدولي متعدد الأقطاب. وتبرز القمة أيضاً كمنصة لتنسيق مواقف الدول الأعضاء تجاه القضايا الإقليمية والدولية، بما في ذلك إدارة الأزمات وتطوير قنوات التعاون الدبلوماسي، وإظهار وحدة موقفها أمام الضغوط الخارجية، وتعزيز التعاون في صياغة سياسات مشتركة تتعلق بالاقتصاد والأمن والقضايا الاجتماعية العابرة للحدود.
– الأبعاد الاقتصادية: تؤكد القمة على أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الأعضاء من خلال التركيز على التجارة والاستثمار والبنية التحتية، ومناقشة مشاريع استراتيجية في الطاقة والنقل والاتصالات. كما تتيح الفرصة لمواجهة تأثير التعريفات الجمركية الأمريكية على الشحنات والتجارة الدولية، وتعزيز دور المنظمة كقوة اقتصادية مؤثرة في منطقة أوراسيا.
– الدلالات الرمزية: تحمل القمة بعداً رمزياً مهماً يعزز من قدرة منظمة شنغهاي على تقديم نموذج بديل للتكتلات الغربية، ويعزز صورة الصين وروسيا كقوى موازنة ومسؤولة على الساحة الدولية. كما تعكس مشاركة قادة من آسيا الوسطى وجنوب آسيا والشرق الأوسط حرص الأعضاء على تعزيز التضامن الإقليمي وإظهار قدرتهم على إدارة العلاقات الدولية وفق مصالح مشتركة، مما يرسخ مكانة المنظمة كفاعل مؤثر في النظام الدولي متعدد الأقطاب.
ليس مفاجئا أن تتصرف أمريكا، إزاء ما تسميه روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، على النحو الذي نشاهده. فهذه “العملية” الروسية هي الخطوة العملية الأولى في برنامج إزاحة الولايات المتحدة عن موقع التفرد على قمة الهرم العالمي.
ويعلمنا التاريخ أنه لم يحدث أن تنازلت أي إمبراطورية عن موقعها ومكتسباتها وهيمنتها عن طيب خاطر. نجحت روسيا بقيادة زعيمها، فلاديمير بوتين، منذ توليه السلطة، باعتماد مبدأ الإقدام والمبادرة، وترَكَ للإمبراطورية الأمريكية ممارسة “ردود الفعل”.
حصل هذا منذ مواجهة روسيا للأحداث في الشيشان، ثم في جورجيا، ولاحقاً في أوكرانيا سنة 2014، حيث كانت أبرز نتائجها “استعادة شبه جزيرة القرم الى حضن أمها روسيا”، وتوفير الحماية لمقاطعتين في شرق أوكرانيا، غالبية سكانهما من الروس.
لكن “المبادرة” الروسية الحالية، التي انطلقت قبل ثلاثة اسابيع، مع تخطي جنازير أول دبابة روسية للأراضي الأوكرانية، شكلت الخطوة الحاسمة في مسلسل الصراع الروسي، لفرض “نظام دولي” جديد، متعدد الأقطاب، ينهي نظام الاستفراد الأمريكي، العسكري والاقتصادي، في عالم “القطب الواحد”.
لم تتأخر ردود الفعل الأمريكية، الباهتة، على المبادرة الروسية، وتمثلت هذه بفرض “عقوبات اقتصادية” على روسيا. ونقول “باهتة” لأن أمريكا، بالذات، مارستها مرارا وتكرارا، ولم تكن غير مُجدية، فقط، بل إنها أعطت نتائج عكسية تماماً. من التاريخ ومن الحاضر، نتعلم من الإغداق بالمساعدات الاقتصادية، ومن فرض العقوبات الاقتصادية، أن الإغداق مثمر ومفيد، في حين أن فرض العقوبات مُضر ويعطي دائماً نتائج عكسية: .
ـ أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان، سنة 1947، اي بعد عامين فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية، على إقرار “مشروع مارشال”، (ومارشال هو الجنرال جورج مارشال، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية، ووزير الخارجية الأمريكي منذ كانون الثاني/يناير 1947، والذي أعلن مشروعه بنفسه يوم 5 حزيران/ يونيو من ذلك العام). وسمي المشروع، في حينه، “المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا” بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وبلغت قيمة المشروع 12.9925 مليار دولار، (ما يعادل نحو خمسين ضعف ذلك المبلغ في أيامنا). وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت أوروبا (الغربية طبعا)، بفضل مشروع مارشال الحليف القوي لأمريكا. ـ في مقابل مشروع “الإغداق” الأمريكي السخي، والمُثمر، على دول أوروبا الغربية، أقدمت أمريكا، في بداية عهد الرئيس دوايت آيزنهاور، (وربما بتحريض من بريطانيا)، على فرض شروط لتمويل بناء سد أسوان (السد العالي) في مصر، رفضها الزعيم المصري العربي، جمال عبد الناصر، ووصفها بـ”الشروط الإستعمارية”.
ولهذا الموضوع قصة لا يضيرنا إعادة التذكير بها. ففي أعقاب ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، قدم المهندس المصري من أصول يونانية، أدريان دانينوس، لعبد الناصر، فكرة إنشاء سد في منطقة أسوان، من أجل حجز مياه نهر النيل، منعا للفيضان من جهة، وجمعاً للمياه من جهة ثانية، من أجل أعمال الري واستصلاح الأراضي، ومن أجل توليد الطاقة اللازمة لنمو مصر والانتقال بها الى عصر الصناعة. استساغ عبد الناصر الفكرة، ورحب بها وأقرها مجلس قيادة الثورة، وبدأت عملية البحث عن تمويل بناء السد.
وافقت أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي على تولي مسؤولية التمويل ولكن بشروط. وعندما رفضت مصر تلك الشروط، سحبت أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي عرضهم للتمويل، (وربما كان ذلك أول قرار “عقوبات أمريكية اقتصادية” غبي)، وهو ما سرع في اتخاذ م
صر قرارا تاريخيا بتأميم قناة السويس، الذي أعلنه جمال عبد الناصر يوم 26 تموز/ يوليو 1956، والذي كان الذريعة المعلنة لـ”العدوان الثلاثي” الفاشل، (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) على مصر، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام.