سفير السودان بالقاهرة: ما يحدث في الفاشر إبادة جماعية مكتملة الأركان والمجتمع الدولي يتواطأ بالصمت

حوار : أيمن عامر
في ظلّ تدهور الأوضاع الإنسانية واشتداد الهجمات في مدينة الفاشر غرب السودان، تحدّث الفريق أول عماد الدين مصطفى عدوي، سفير جمهورية السودان بالقاهرة ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، في حوار خاص مع « صوت الأمم »، كاشفًا عن تفاصيل مروّعة لما وصفه بـ«جرائم حرب وإبادة جماعية» ترتكبها ميليشيا «الدعم السريع» بحق المدنيين العُزّل.
وخلال اللقاء الذي أُجري بمقر إقامته على ضفاف النيل، وجّه السفير نداءً عاجلًا للمجتمع الدولي للتحرك قبل فوات الأوان، مؤكدًا أن ما يجري في الفاشر يمثل أخطر فصل في مأساة السودان المستمرة، مشيدًا في الوقت ذاته بـالموقف المصري الثابت والداعم لوحدة السودان وأمنه القومي و حفاظًا على الأمن القومي العربي والأفريق.
وإلى نص الحوار
*كيف تصفون ما يجري حاليًا في مدينة الفاشر؟
** ما يجري هناك هو جريمة مكتملة الأركان بحق المدنيين العزّل، وانتهاك صارخ لكل القوانين الدولية والإنسانية. ميليشيا «الدعم السريع» المتمردة ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترقى إلى الإبادة الجماعية. ما يحدث ليس نزاعًا مسلحًا، بل عملية تطهير عرقي ممنهجة تُرتكب أمام أنظار العالم في صمت مريب.
*متى بدأت هذه الحرب وكيف تطورت إلى ما نشهده اليوم؟
**اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023، عندما شنت ميليشيا «الدعم السريع» هجومًا واسعًا استهدف إسقاط الدولة السودانية وتدمير مؤسساتها الشرعية. ومنذ ذلك الحين، تواصل قواتنا المسلحة أداء واجبها الدستوري في حماية المواطنين واستعادة الاستقرار، رغم الدعم الخارجي الكبير الذي تتلقاه هذه الميليشيا.

*ما أبرز ملامح الوضع الإنساني في مدينة الفاشر؟
**كانت الفاشر محاصرة لمدة ثمانية عشر شهرًا متواصلة، تعرضت خلالها لأكثر من 300 هجوم منسق وقصف عشوائي متكرر. تم قطع الغذاء والدواء والوقود عن السكان، مما أدى إلى كارثة إنسانية حقيقية. وقد وصفت الأمم المتحدة استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين بأنه «جريمة حرب»، وهو ما يؤكد فداحة ما يجري هناك.
*تردد أن الميليشيا استخدمت أسلحة محرّمة دوليًا في هجماتها الأخيرة، ما مدى صحة ذلك؟
**في 26 أكتوبر، شنت الميليشيا هجومًا واسعًا استخدمت فيه طيرانًا أجنبيًا يُشتبه في حمله لغاز الأعصاب المحظور دوليًا، إلى جانب قصفٍ مكثف للأحياء السكنية وقطعٍ كاملٍ للاتصالات عن المدينة. ما حدث يؤكد أن الميليشيا لم تعد تتحرك بمفردها، بل تحظى بدعم خارجي منظم وممنهج.
*هل لديكم أدلة موثقة على الانتهاكات التي تحدث؟
** نعم، لدينا مئات الشهادات والوثائق التي توثق هذه الجرائم. الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية تُظهر أكوامًا من الجثث ومشاهد تُصنّف ضمن نطاق الإبادة الجماعية. حتى 28 أكتوبر تجاوز عدد القتلى 2700 شخص، بينهم 1200 من كبار السن والجرحى داخل المرافق الصحية، ونحو 500 مريض ومرافق في المستشفى السعودي بالفاشر. كما احتجزت الميليشيا 300 سيدة وفتاة، وتعرضت العشرات منهن للعنف والاغتصاب. ما يجري هو مخطط متكامل للتطهير العرقي، وليس تصرفات فردية أو عشوائية.
*من يقف وراء دعم هذه الميليشيا؟
**هذا هو السؤال الأهم. من يزوّد الميليشيا بالمال والسلاح والمرتزقة والطائرات المسيّرة المتطورة؟ ومن يغطي جرائمها سياسيًا وإعلاميًا؟ نحن نعلم جيدًا أن هناك دولة عربية بعينها تموّل هذه الميليشيا وتزوّدها بالسلاح والدعم اللوجستي. السودان قدّم شكاوى موثقة إلى مجلس الأمن بهذا الخصوص، لكننا لم نجد حتى الآن أي استجابة جادة. هذه الدولة تتحمل مسؤولية مباشرة عمّا يحدث، خاصة أنها ترأس حاليًا مجلس جامعة الدول العربية، وهو ما يثير تساؤلات مؤلمة حول ازدواجية المواقف.
*ما أبرز مطالبكم العاجلة للمجتمع الدولي في هذه المرحلة؟
**نطالب بتحرك فوري يتجاوز التصريحات إلى إجراءات عملية، وأهمها:
1. تصنيف ميليشيا «الدعم السريع» كمنظمة إرهابية.
2. إدانة صريحة للدولة العربية التي تدعم الميليشيا رغم رئاستها لمجلس الجامعة العربية.
3. فتح تحقيق دولي مستقل ومحايد تحت إشراف الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية.
4. إيصال المساعدات الإنسانية عبر ممرات آمنة.
5. فرض حظر تسليح شامل على الميليشيا.
6. اتخاذ تدابير عاجلة لحماية المدنيين ووقف الإبادة الجماعية فورًا.
*كيف تقيّمون موقف المجتمع الدولي من الأزمة حتى الآن؟
**للأسف، الموقف الدولي ما زال متقاعسًا ومخيبًا للآمال. الاكتفاء ببيانات الإدانة لا يوقف المجازر. الصمت في مواجهة الإبادة تواطؤ، ومجلس الأمن يتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن استمرار هذه الكارثة. المجتمع الدولي مدعوّ اليوم قبل الغد للتحرك الجاد لوقف النزيف وإنقاذ ما تبقى من المدنيين الأبرياء.
*ما تقييمكم لمواقف جامعة الدول العربية من الأزمة السودانية؟
**هناك من يتساءل لماذا لم تتدخل الجامعة العربية بسرعة لحل الأزمة، وهناك مثل سوداني يقول: *من في فمه ماء لا يستطيع أن ينطق.
وأنا، كمندوب للسودان في الجامعة العربية، أرى أن أعلى المواقف دعمًا للسودان تأتي من الأمانة العامة، لأن متخذي القرار فيها متحررون من الضغوط السياسية للدول. ولكن، هل تستطيع الجامعة العربية مجتمعة أن تصدر بيانًا قويًا كالذي تصدره الأمانة العامة؟ لا تستطيع، بسبب خلل كبير في ميثاق الجامعة ومحاولات إصلاحه التي تواجه رفضًا من عدة أطراف.
للأسف، من يرأس مجلس الجامعة في دورتها الحالية هو مندوب الدولة العربية الداعمة لميليشيا «الدعم السريع»، فكيف يمكن للمجلس الوزاري أن يتخذ قرارات فعّالة تدعم السودان وجيشه الوطني في ظل هذه الرئاسة؟
ومع ذلك، لا يعني هذا أن الأمانة العامة والمنظمات التابعة لها بعيدة عن دعم السودان، بل على العكس، نشيد بجهود الأمين العام أحمد أبو الغيط، الذي يعد الداعم الأول للسودان، وأصدر العديد من البيانات المؤيدة له.
وإذا أردنا للجامعة العربية أن تقف مع نبض الشعوب العربية، فعلينا بذل جهد حقيقي لدعم السودان، لأن المآسي لا تقتصر علينا وحدنا، فإخوتنا في فلسطين واليمن وسوريا وليبيا ينتظرون موقفًا عربيًا موحدًا يوقف نزيف الدم العربي أينما كان.
*ما الذي يحتاجه السودان من مساعدات إنسانية عاجلة، خاصة لمدينة الفاشر؟
**السودان بحاجة ماسة إلى كافة أشكال المساعدات الإنسانية، ويجب تسريع إدخالها. فالمساعدات في إقليم دارفور تعتمد على فتح معبر «أرقين»، وقد التزمت الحكومة بفتحه رغم التحفظات، لأن الميليشيا تستغل المعبر في تهريب السلاح والذخائر.
لكننا ندرك أهمية إيصال الدعم الإنساني، فالمساعدات تصل حتى مسافة 14 كيلومترًا من الفاشر، والميليشيا تمنع دخولها. الأمم المتحدة تصدر قرارات، لكن الميليشيا تتجاهلها، ولا أحد يحاسبها.
ما يحدث أن المساعدات الإنسانية أصبحت تُستخدم كسلاح للتجويع وفرض مواقف مشبوهة. ومع ذلك، نثق أن الحملات الإعلامية التي كشفت المأساة ستسهم في تسريع إيصال الدعم لأهلنا في الفاشر.
*كيف تقيّمون الموقف المصري الداعم للسودان؟
**مواقف مصر قوية وثابتة في دعم السودان، انطلاقًا من حرصها على الأمن القومي المصري–السوداني والعربي–الأفريقي. وترسيخ الأمن والسلم الدوليين
مصر تدرك تمامًا طبيعة ما يحدث في السودان، وأن الأزمة تهدد أمن وادي النيل، ولذلك فهي تسعى لحماية وحدة السودان وسلامة مؤسساته.
نثمن عاليًا دعم القيادة المصرية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ووزير الخارجية بدر عبد العاطي، وكافة المسؤولين والشعب المصري الشقيق.
مصر من الدول القليلة التي تدرك خطورة تفتيت الدولة الوطنية، لذا فهي حريصة على وحدة السودان واستقراره، وقد شاركت في الرباعية الدولية ومبادرات دول الجوار، وفي مبادرات الاتحاد الأفريقي والإيجاد، ومؤتمر لندن، حيث أصرت على تضمين البيان الختامي ما يؤكد على وحدة السودان وأمنه واستقراره.
كما قال الرئيس البرهان للرئيس السيسي: «نحن نأمن بمصر». ونحن بالفعل نثق في أن مصر أينما كانت، سيكون السودان إلى جانبها.
*كيف يمكن للمبادرات الإنسانية والدولية أن تنقذ مدينة الفاشر من أزمتها؟
**المبادرات الإنسانية ضرورية للغاية، ولذلك أنشأنا في السفارة السودانية بالقاهرة منسقًا خاصًا للمبادرات بعد أن تجاوز عددها 160 مبادرة.
من بينها مبادرات من رجال أعمال لتقديم دعم مادي ضخم، وأخرى من الوزارات المصرية، منها مبادرة من وزارة الصحة المصرية التي قدمت دعمًا طبيًا وصحيًا كبيرًا للشعب السوداني.
ونحن ننسق حاليًا لإيصال أكثر من 200 ألف عبوة حليب أطفال و180 طنًا من الأدوية بشكل عاجل، إضافة إلى قافلة طبية ستتوجه إلى السودان خلال أيام. لا فرق بين مصر والسودان، فهما شعب واحد ومصير واحد.
*ما تقييمكم للرباعية الدولية؟
**السودان يرفض استمرار الرباعية الدولية في ظل عضوية الدولة العربية التي تموّل وتسلّح ميليشيا «الدعم السريع». لن نشارك في أي إطار يضم من يتآمر على السودان، فهذه الدولة ليست وسيطًا نزيهًا ولا مأمونة على قضايانا.
من حق السودان أن يتعامل مع الجميع وفقًا لمصالحه القومية وحماية أرواح شعبه ووحدة أراضيه.
*من يعيق الحل السلمي في السودان؟ ولماذا لا تجرون مفاوضات مباشرة مع الميليشيا؟
** هناك أطراف إقليمية ودولية تنفذ أجندات خفية لإفشال جهود السلام. نحن نسعى إلى توحيد الجبهة الداخلية السودانية لتهيئة الأجواء لأي تفاوض مباشر أو غير مباشر، شرط الحفاظ على وحدة الدولة والإصطفاف خلف الجيش الوطني.
*هل هناك تراجع من السودان عن المفاوضات الدولية؟
**أبدًا، لم نتراجع. نحن رحبنا بمفاوضات جدة وشاركنا فيها، وسنشارك في أي وساطة تحافظ على سيادة السودان ومؤسساته. نرفض فقط أي مبادرة لا نشارك في صياغتها أو تتجاهل حقوق شعبنا.
*كيف تنظرون إلى مبادرة الهدنة الإنسانية الأخيرة؟
**الولايات المتحدة وصفت المأساة في السودان بأنها الأكبر والأصعب، وتسعى مع شركاء آخرين لبلورة حلول سلمية، لكن لا يمكن فرض أي تسوية على السودان دون مشاورته.
نحن نؤمن أن موقف الحكومة السودانية يعكس إرادة الشعب، فما يوافق عليه الشعب توافق عليه الحكومة، وما يرفضه ترفضه. سيبقى السودان شعبًا واحدًا وجيشًا واحدًا.
*ما رسالتكم الأخيرة للعالم؟
**رسالتي واضحة: ما يجري في الفاشر هو جريمة إبادة ضد الإنسانية لا يمكن تبريرها أو تجاهلها.
ستبقى هذه الجريمة وصمة عار على جبين كل من صمت أو تواطأ أو تجاهل نداءات الضحايا
.
السودان لن ينسى، وسيواصل الدفاع عن أرضه وشعبه حتى النهاية. العدالة ستأخذ مجراها، وسيدفع الجناة وداعموهم الثمن عاجلاً أم آجلاً.




