قراءة نقدية لديوان “حافية على أشواك الغاردينيا” بنادي أدب مصر الجديدة

دعاء زكريا
أقيم بنادي ادب مصر الجديدة برئاسة المهندس والشاعر شرقاوي حافظ مناقشة ديوان (حافية على أشواك الغاردينيا) للشاعرة نهى شوكت أدار المناقشة الشاعر أشرف البنا وقد شارك في المناقشة كوكبة من الشعراء والأدباء،
وقدم الدكتور بسيم عبدالعظيم الشاعر والناقد الأكاديمي بكلية الآداب جامعة المنوفية قراءة نقدية مستفيضة للديوان
حيث قال الدكتور بسيم ان ديوان “حافية على أشواك الغاردينيا يمثل قصائد نثرية” ، من خلال تجربة شعرية مكثفة تخوض غمار العشق المستحيل والألم الوجودي، حيث يقف هذا الديوان، وهو العمل الرابع للشاعرة، كبناء فني يقوم على فلسفة الثنائيات المتناقضة: الحياة والموت، القسوة والجمال، الحنين والغربة، وذلك من خلال لغة ذات كثافة عالية وصور شعرية مُجَسّدةً، ترسم الشاعرة خريطة روحية لامرأة تعيش على حافة الانهيار، ولكنها تصر على المقاومة والخلود عبر الحرف.
وبدأ الدكتور بسيم تحليل العنوان والترميز الدلالي، حيث أوضح أن عنوان الديوان “حافية على أشواك الغاردينيا “مفتاحاً رئيساً لولوج عالمه الشعري، فهو يختزل الثيمة المركزية للعمل بأكمله: التناقض المأساوي بين الشوق والأذى.
دلالة “حافية :” ترمز كلمة “حافية” إلى الضعف المطلق والنزوع نحو البراءة الطبيعية غير المصطنعة، لكنها في سياق الديوان تدل على التعرض المباشر للأذى والألم دون حماية، والشاعرة تعترف بأنها مشيت “حافية على أشواك الغاردينيا”، مما يعني اختيار الطريق الأكثر قسوة أو الوقوع فيه اضطراراً، حيث يكون الجلد العاري (الذات المجردة) هو المتلقي الوحيد لوخز المصاعب، وهذا الحفاء يُشير إلى تجرد الشاعرة من أوهام الحماية التقليدية أو الأطر الاجتماعية المقيدة.
دلالة “أشواك الغاردينيا : “تجمع هذه الصورة بين نقيضين جوهريين:
الغاردينيا: هي رمز للجمال، والرقة، والعطر، والاحتفاء بالحب.
الأشواك: هي رمز للألم، والقسوة، والخذلان، والمقاومة، ويشكل الجمع بينهما تناقضاً وجودياً عميقاً؛ فالألم الذي تعيشه الذات ليس ألماً عابراً أو قسوة قادمة من مصدر بغيض، بل هو ألم متأصل في قلب الجمال نفسه، حيث لا ينفصل الحب (الغاردينيا) عن الوجع (الأشواك).
وهذا التناقض هو ما دفع الشاعرة إلى البحث عن “ترياق الوجع ومراهم الحريق”، معترفة بأنها “حاملة ترياق الوجع ومراهم الحريق”.
الترميز العام للعنوان: يعكس العنوان حالة الذات التي تعيش العشقَ الملتهبَ وفي الوقت ذاته الاحتراق الداخلي، إنه اعتراف بأنَّ بلوغ درجات السمو العاطفي (عطر الغاردينيا) يتطلب السير على مذبح الآلام.
ثانياً: مضمون الديوان وموضوعاته الرئيسية حيث تدور القصائد النثرية في الديوان حول رحلة روحية للذات العاشقة المتمردة، متنقلة بين عدة محاور وجودية:
ثنائية العشق والاحتراق :العشق في الديوان ليس مجرد عاطفة، بل هو ميلاد جديد وحالة جنون واحتلال شامل للذات، حيث تعلن الشاعرة أنَّ قلبها “ينبض باسمك”، وأنَّ حبيبها هو مَنْ “يلعب كطفل وُلد مني”. لكن هذا الحب لا يخلو من عذاب. تتهم الشاعرة الحبيب بالاحتلال، وتعترف بأنها “مقتولة بخناجر زيف القناعات”. هذا الألم هو نتاج الخذلان والشك، ما يدفعها للسؤال المؤلم: “هل لامست يد امرأة غيري؟”. ويصور الديوان كيف أنَّ الذات العاشقة تتحول إلى “مدينة الحب المسكونة بأشباح العدم”.
قضايا الهوية الأنثوية والاستثناء : تؤكد الشاعرة على تميزها الفردي وعمق تجربتها. تصف نفسها بأنها “امرأة المستحيل”، التي “يولد الصبح من ابتسامتها بلا خوف”. هذا الإصرار على الفردية يتجسد في عناوين مثل “امرأة من ألف مقام”، و “امرأة من ألف سطر”. فالذات هنا تعلن سيطرتها الروحية، فترفع رايتها البيضاء وتعلن حبيبها “ملكاً على عرش مملكتي شمس التي أبداً لا تغرب”، مشيرة إلى أنَّ قلبها هو مصدر سلطته ومقامه.
الزمن والذاكرة والغربة : يُعامل الزمن في الديوان ككيان مادي قاسٍ. تتساءل الشاعرة عن القدرة على “إعادة الزمن” أو “إيقاف زحف المسافات”، وتصف اللحظات بأنَّها “تغتال” أو تتفتت كبلور. يعيش الكائن الشعري حالة “اغتراب” و”هجرة” مستمرة، حيث تظل مهاجرة لا تعرف “متى وأين أصل لآخر الدنيا”. وتترسخ فكرة النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) كملجأ وحيد، إذ تصف الذكريات بأنها “نقطة مضيئة” في الظلام. وفي لحظة الوداع، يتم طي “أجنحة المسافات” وبعثرة “حروف الأبجدية”
الاحتضار والتلاشي
يحتوي الديوان على مقاطع مُكَرَّسة بالكامل لوصف الموت الروحي، فتصف الشاعرة تداعي الجسد والروح تحت وطأة الغياب، حيث “الروح تغادرني” و”انسلتْ مني روحي”.
ويتم تصوير الموت كأنَّ الأكفان تهوي على وجهها وهي تُدفع إلى لحود ضيقة. ورغم الانهيار والتلاشي في العدم “ابتلعني العدم”، فإنَّ الابتسامة تبقى، مما يؤكد على أنَّ السمو الروحي يتجاوز الألم الجسدي.
الرموز والدلالات
يستخدم الديوان رموزاً ثقافية ودينية وعناصر طبيعية مكثفة لتعميق التجربة العاطفية:
رمز يوسف وزليخة : يُستخدم هذا الرمز الديني للدلالة على العشق الأبدي، لكن الشاعرة هنا تستدعيه وتتجاوزه، ففي إحدى القصائد، تصف المحبوب بأنه “يعانق ألف يوسف بعينيك ويؤوي ألف زليخة بضلعيك”. وهذا التضخيم يرمز إلى كمال العشق في عينيها. لكنها تعود في قصيدة لاحقة لتعلن التحرر ” :لم أعد زليخة ولست بيوسف فاكسر الكأس وافتح سبعة الأبواب”. وهذا الإعلان هو دلالة على التحرر من القيد الأسطوري ومن نمط العشق القائم على الوهم أو التقليد، نحو واقعية الألم.
رمز الأشجار والنباتات
شجرة الوجع : تمثل استدامة الألم وتجذره.
الغاردينيا والأقحوان والياسمين : تمثل الرقة والجمال والحب الذي ينبت رغم الصعاب.
أشجار التفاح : يتم استدعاء رمزية حواء، حيث تتساءل الشاعرة عن كيفية اشتعال الجليد، وعن قدرة آدم على قضم التفاحة، في إشارة إلى بداية الخطيئة والوجع الوجودي.
رمز الفضاء والمكان : تتجسد الأماكن كأوعية للعاطفة
مدينة للعناق
التساؤل عن وجودها يرمز إلى البحث عن مأوى روحي مستحيل المنال.
أقبية العناق: يوحي هذا الرمز بالاحتواء السِّرِّي والعميق بعيداً عن أعين العالم.
ثقب الأوزون الأسود : يرمز إلى الخطر الوجودي القادم، حيث “رأيت أيامي آتية من ثقب الأوزون الأسود”، مما يربط المصير الشخصي بالكوارث الكونية.
الصور الشعرية
تعتمد نهى شوكت في بناء قصائدها النثرية على صور شعرية مبتكرة تمزج بين التجسيد والمفارقة، مما يمنح المجردات ثقلاً حسياً:
تجسيد المفاهيم المجردة:
تجاعيد الزمن : يُرسم الزمن كلوحة لها تجاعيد.
الكلمات كنسيج : الكلمات “تُضفر مثل شعري”، أو تتحول إلى ثوب أصيل للمشاعر، أو تخرج مجهضة “كلمات مبتورة”.
تكسر الروح والجسد : الجسد يتأرجح و “يقع”، وتتفتت “أشلاء”، مما يمنح الانكسار العاطفي هيئة مادية ملموسة.
النسيان الراقص
“يتساقط النسيان راقصاً من قطع السحاب”، وهي صورة بصرية فريدة تمنح النسيان خفة السقوط ورشاقته.
صور الحواس المتداخلة : تتجاوز الصور حدود حاسة واحدة، فتسمع الشاعرة ما لا يُسمع:
اللحن الفيروزي” :تلعثمت أذناي لحديثك الفيروزي، لحن لم يسمعه سواي”، حيث يتحول الصوت إلى لون (فيروزي)، ويقتصر إدراكه على الذات الشاعرة، مما يؤكد خصوصية التجربة.
الشم واللمس:” أدمنت رائحة يديك”، والسؤال عن شم “رئة امرأة غيري”، و”رائحة شعري”، هذه الروائح تُصبح دلالات للوفاء أو الخيانة.
صور الحركة العنيفة والتدمير : تكثر صور الانهيار والتحدي:
القلب كبركان” :أعيش في بركان يمور لا تحكمه المسافات”.
الاحتراق والظمأ: “تنتحر عقارب الساعات”، “أشرب الفجر دمعة واحدة ليشتعل الليل”.
تجسيد الظلمة: الظلال باهتة تسير جائعة، والخيال يصبح مهترئاً، والأفكار أعشاش متهدمة.
خامساً: اللغة والأسلوب:
تعد اللغة في الديوان لغة شفيفة ومكثفة، متوافقة مع طبيعة القصيدة النثرية، وتتميز بالأسلوب التعبيري الشخصي:
القصيدة النثرية والتحرر
يصنّف الديوان على أنه “قصائد نثرية”، وهذا ما يفسر التحرر الكامل من الوزن والقافية التقليدية، مع الحفاظ على الإيقاع الداخلي الناتج عن التكثيف والموازنات اللفظية، فالشاعرة تكسر القيود، معلنة أنها “فطرتْ كقصيدة بلا وزن”.
الخطاب الوجداني المباشر والمناجاة : يغلب على الأسلوب خطاب المخاطب المباشر (أنتَ/أيا أيُّها)، وهو ما يضفي على النصوص طابع الاعتراف والمناجاة الحارة. تتوجه الشاعرة إلى الحبيب بنداءات حادة أو استنكارية: “أيا كليم القلب اخلع نعلي الكلام”.
الإيقاع الاستفهامي والأسئلة الوجودية: يُعد الاستفهام ركيزة أساسية في البناء الأسلوبي، حيث يعكس القلق والبحث عن إجابات في عالم الغياب. وتتعدد الأسئلة التي لا تنتظر جواباً: “كيف لي أنْ أهرول بشوارع الخسارات؟”، “هل أنتَ رجل من ماء؟”، “هل استنشقتَ رئة امرأة غيري؟”. هذا الكم من الأسئلة يضفي نبرة مأساوية على النصوص.
التكثيف والتوقف الدلالي ( النقاط المتتالية 🙁 تستخدم الشاعرة الإشارات والوقفات (النقاط المتتالية…) بكثرة للتعبير عن حالة الاختناق أو العجز عن البوح أو تتابع اللحظات المؤلمة: “أنا فقط أختنق…”، “أتساءل… ولا جواب”. هذه التوقفات تكسر الإيقاع لتعكس انكسار الذات.
اللغة الروحية الصوفية : تتخذ اللغة منحى روحياً في وصف الحب، حيث يتجاوز الحب حدود المنطق والعقل (“والغِ عقلك وأنس المنطق”)، ويصبح هدفاً سامياً (“لتكتشف بيديه قطرات العرق… جمع أبجديات العشق”). المشاعر هي “درة تاج المعاني الراقية”، مما يرفعها إلى مرتبة العبادة.
يشكل ديوان “حافية على أشواك الغاردينيا” نصاً شعرياً غنياً يجسد محاولة الذات الأنثوية لاكتشاف هويتها في سياق علاقة حب مؤلمة.
وقد نجحت نهى شوكت في المزج بين جمال الصورة وسريالية الرمز، من خلال لغة متدفقة ووجع شفيف.
إنَّ هذا الديوان ليس مجرد مجموعة من القصائد، بل هو “رحلة بلا ذكريات ” تسافر بالقارئ إلى أعماق الروح الإنسانية التي، رغم ابتلاعها للعدم، “ما زالتْ تبتسم”.
شارك بالحضور الكاتبة والروائية شهناز الفقي والشاعر سامي سلوم و الكاتبة ايمان عنان، ومجموعة من الأدباء والشعراء والمهتمين بالشأن الثقافي.