الرئيسيةمقالات الرأي

مريم بدران تكتب : حين تتحول الإنسانية إلى فائض غير مرغوب فيه

 

في عالم تصنع فيه الفيروسات داخل المختبرات، وتدار فيه الكوارث بوصفها أدوات ضغط ورسائل سياسية، ويعاد فيه ضبط الخوف ليصبح أداة حكم شاملة، يبدو الحديث عن الأخلاق فعلا عبثيا، أو نكتة سوداء تقال في جنازة الإنسانية.

المأساة لم تعد في غياب الضمير، بل في أولئك الذين يتحدثون عنه بثقة، وكأنه ما زال حيا، بينما هو ميت منذ زمن. يتشدقون بما يسمونه الضمير المهني، في حين أن الضمير الإنساني نفسه أخرج من المعادلة، كائنات بشرية مشوهة تمشي على قدمين، تتحدث باسم الأخلاق، وباسم المقدس، ثم تمارس القمع باسم النظام والإستقرار
كل شيء مقلوب. التاريخ كتب بأقلام المنتصرين فصار كذبة رسمية، والحرية أعيد تعريفها لتصبح وهما داخل قفص أنيق، والإنسان لم يعد إنسانا بل رقما، أو ملفا، أو حالة إحصائية في منظومة لا ترى الأفراد بل تديرهم. الأحداث لا تقع بل تصنع، الأزمات لا تنفجر بل يضبط توقيتها، والخوف لا يشعر به بل يحقن، والطاعة لا تبنى على القناعة بل تبرمج.

نحن لا نعيش الزمن، بل ندار داخله. الوقت نفسه أعيد تشكيله ليعمل ضد الإنسان، ليبقيه في حالة انتظار دائم، قلق مزمن، واستنزاف بطيء. الكون الواسع لم يعد مصدر دهشة، بل غطاء باردا لمنظومة تتصرف وكأن البشر خطأ حسابي يجب تقليصه. حتى الكوارث لم تعد قدرا، بل أدوات ضبط، وحتى النجاة أصبحت امتيازا طبقيا.

أنظمة فاسدة ترتدي بدلات الشرف وتتحدث عن القيم، بينما أيديها تقطر دما. تتاجر بالأجساد تحت مسميات إنسانية، وبالأعضاء تحت لافتات طبية، وبالمرض تحت عنوان البحث العلمي، وبالجوع تحت اسم السوق.

الإنسان يفكك إلى قطع: كلية هنا، قرنية هناك، دم، نخاع، وقت، عمر. كل شيء قابل للبيع ما دام مغلفا بلغة قانونية باردة. ثم يعظون الناس عن الصبر، وعن الأخلاق، وعن ضرورة التضحية من أجل الصالح العام.
أي نفاق هذا؟

سمها ما شئت: منظومة، نظاما عالميا، نخبة خفية، أو عقلا تقنيا بلا وجه
الإسم لا يهم. الجوهر واحد: منظومة ذكية قذرة، تعرف كيف تكذب حتى تقنعك أن الكذبة حقيقة، وكيف تحول الجريمة إلى إجراء، والقسوة إلى سياسة، والخراب إلى ضرورة تاريخية. تدمرك ببطء، بلا دم، بلا صراخ، وبلا أثر جريمة واضح، حتى يصبح الألم طبيعيا، والاعتراض نشازا
الإنسانية لم تقتل فجأة، بل أفرغت من معناها تدريجيا، ثم دفنت تحت قوانين باردة ونصوص بلا روح. القوانين لم تعد لحماية الإنسان، بل لضبطه، لتقنين خوفه، لتنظيم صمته. وحين يرفض، يقنع بأنه هو المشكلة، وأن الشك مرض، وأن الوعي خلل، وأن الغضب يحتاج علاجا.

العقل الذي لا يصطدم بالواقع لا يوصف بالنضج، بل بالترويض. نعيش داخل مسرحية كونية رديئة الإخراج: ممثلون بلا ملامح، نص مكتوب بلغة تقنية جافة، وجمهور مطالب بالتصفيق باسم العقلانية، وباسم الواقعية، وباسم أنه لا بديل. وكل من يرفض الدور يوسم بالفوضى، أو الجنون، أو عدم الفهم.

في هذا العالم، الضمير يستخدم كقناع، لا كقيمة. والإنسان يقاس بمدى نفعه لا بكرامته. وكل ما يقال عن التقدم يخفي سؤالا واحدا لا يراد له أن يطرح: ماذا تبقى من الإنسان حين يصبح مجرد مورد، وحين تتحول الإنسانية نفسها إلى فائض غير مرغوب فيه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى