محمد أبو طالب يكتب : تكنولوجيا تتوهّج… وحقوق تُختنق: وطن يرقمن المستقبل ويُعطّل العدالة

بقلم : محمد أبو طالب
في عصر يبدو فيه العالم كأنه يركض بسرعة الضوء نحو المستقبل الرقمي، صار كل شيء رقميًا تقريبًا: التعليم، الصحة، البنوك، الخدمات الحكومية، وحتى تفاصيل الحياة اليومية التي كانت بسيطة أصبحت مربوطة بشبكة الإنترنت. ويُفترض أن التكنولوجيا تفتح الأبواب للجميع، وتخلق فرصًا متساوية، لكن الواقع يكشف وجوهًا مظلمة خلف هذه الواجهة البراقة. هناك فئة ما زالت محاصرة، تُترك خلف الجدران الرقمية، تُهمل تحت شعارات الدمج، وتُستثنى من كل تجربة تُصمَّم لتكون “حديثة”: الأشخاص ذوو الإعاقة. التكنولوجيا، التي يُراد لها أن تكون جسرًا، تحولت أحيانًا إلى سور لا يمكن تجاوزه.
لا شيء يكشف حقيقة المجتمعات مثل الطريقة التي تُعامل بها الدولة الأشخاص ذوي الإعاقة، فهُم المرآة التي تُظهر صدقها أو كذبها، إرادتها أو غيابها، رُقيّها أو فراغ شعاراتها، وكأن وجودهم مجرد هامش يمكن تجاهله. بينما ينطلق العالم بسرعة جنونية نحو الرقمنة، تظل الإعاقة محاصرة في مربعات الشفقة بدل الحقوق، وفي وعود كبرى بلا تنفيذ، في زمن يفترض أن التكنولوجيا تهدم الجدران، لكنها تعيد بنائها بطرق أكثر تهذيبًا ولكن بنفس القسوة.
الحديث عن الإتاحة أصبح شعارًا رائجًا في المؤتمرات، بينما الواقع خارج القاعة مغاير تمامًا، فالمدينة غير مهيأة، والمرافق لا تعرف معنى الشمول، والوظائف تُمنح وفق الرضا لا الاستحقاق، والمدارس تعامل الدمج كأنه منحة، والمؤسسات الخاصة تعامله كصدقة. وهكذا يبقى الأشخاص ذوو الإعاقة بين خطاب جميل وواقع بائس، بين قوانين مشرعة ونفاذ معدوم، بين طموحات عالية وممارسات سريعة السقوط.
مصر، مثل كثير من الدول، تمتلك قوانين قوية على الورق، مثل القانون رقم 10 لسنة 2018، الذي كان يمكن أن يغيّر حياة ملايين، لو لم يُترك أسير الأدراج والتنفيذ الجزئي، وكأن النصوص وُضعت للاحتفال التشريعي لا للتنفيذ العملي. وحتى الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة تُقرأ بانتقائية: نطبّق ما لا يزعج الإدارة، ونهمل ما يتطلب شجاعة وإعادة هيكلة، فتظل النصوص زاهية والواقع داكن.
الفجوة بين الأشخاص ذوي الإعاقة وسوق العمل ليست مجرد مشكلة، بل جدار إسمنتي، مع أن التكنولوجيا يفترض أن تكون الجسر الذي يربط بين المهارات والفرص، لكن الجسر لا يُبنى فوق أرضية غير مستوية اقتصاديًا. أغلب الأشخاص ذوي الإعاقة ينتمون لأسر متوسطة أو ضعيفة الدخل، ما يحدد شكل حياتهم: تعليم محدود، تدريب متواضع، فرص شبه معدومة، وبيئة لا تساعد على تطوير المهارات. كيف نطالبهم باللحاق بسوق عمل شرس بينما لم تُمنح لهم أدوات اللحاق أصلاً؟
المؤسسات المعنية بالتأهيل والتوظيف ما زالت تعمل بعقلية قديمة: دورات شكلية، مناهج قديمة، ورش تدريب بلا صلة بالسوق. الأشخاص ذوو الإعاقة لا يحتاجون “تعاطفًا”، بل يحتاجون نظامًا يفتح لهم الأبواب، تدريبًا يواكب السوق، وسياسات تشغيل ترتكز على الاحتياج الحقيقي لا على نسب رمزية للتجميل المؤسسي.
المجتمع نفسه يشارك في صناعة العزل، فالصور النمطية القديمة عن الإعاقة: “ضعيف”، “مش هيعرف”، “مسؤولية”، تتحطم أمام آلاف النماذج حول العالم التي تقود شركات وتبتكر وتنجح وتنافس، وتثبت أن المشكلة ليست في الإعاقة بل في العقول التي ترى الإعاقة قبل الإنسان. التكنولوجيا قادرة على تحويل كل اختلاف إلى إمكانية، وكل صعوبة إلى فرصة، وكل حاجز إلى إعدادات يمكن تعديلها، لكن ذلك يتطلب إرادة لا تخاف كسر التقاليد.
الرقمنة بلا إتاحة لا قيمة لها، فليس منطقيًا أن تبني الدولة بنية تكنولوجية ضخمة بينما تُسقط عن جزء من مواطنيها حقهم في الاندماج. التحول الرقمي ليس مجرد تطبيقات حكومية، إنه فلسفة تبدأ من سؤال: هل يستطيع كل فرد بلا استثناء استخدام الخدمات بكرامة واستقلالية؟ إذا كانت الإجابة لا، فإن كل الإنجازات مجرد ديكور تقني.
مشكلة الإتاحة في مصر ليست مالية، بل ذهنية؛ ليست نقص موارد، بل نقص إرادة؛ ليست غياب خطط، بل غياب متابعة. المؤسسات تنشئ منحدرات شكلية لا تصلح حتى لعربة أطفال، فكيف تُستخدم من شخص يجر قدميه؟ المواقع الإلكترونية تُبنى بلا قارئ شاشة، والفصول الدراسية تُجمّل دون دمج حقيقي، والفعاليات الحكومية عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة تُقام في قاعات لا يستطيعون دخولها. كل هذا لا يحتاج ميزانيات ضخمة، بل يحتاج احترامًا للقانون واعترافًا بأن الإتاحة شرط أساسي للعدالة.
المجتمع المدني هو خط الدفاع الأول، والمؤسسات الجادة مثل ويانا الدولية تُظهر كيف يبدأ التغيير من مبادرات فعلية لا شعارات، تتحرك ميدانيًا، تطلق برامج دمج، وتدافع عن قضايا مثل إصلاح منظومة الوصاية والقوامة، وتضع ملفات ثقيلة على الطاولة تتجنبها الجهات الرسمية. الدور ليس مكملًا، بل تعويضيًا، لأن الدولة لم تتخذ الخطوات الكافية، والمجتمع وحده لا يكفي، فتأتي المؤسسات لتربط الحلقات المفقودة، تضغط، تُحرج، وتكشف.
قضية الأشخاص ذوي الإعاقة ليست قضية فئة، بل معيار قياس الدولة نفسها. معيار التحضر لا يُقاس بعدد الأبراج ولا قوة البنية التحتية، بل بمدى قدرة أضعف مواطنيها على استخدام الطرق والمباني والوصول لفرص متكافئة. مدينة ذكية بلا رؤية شاملة للأشخاص ذوي الإعاقة مجرد واجهة براقة، وشعارات الدمج لا قيمة لها إذا كان طالب ذو إعاقة بصرية لا يستطيع دخول جامعته دون أن يُعامل كضيف ثقيل، أو شاب ذو إعاقة حركية يحارب من أجل وظيفة.
الحديث عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لم يعد يحتمل مجاملة أو تلطيفًا. كل تأخير جريمة صامتة تُرتكب يوميًا. التقدم الحقيقي لا يبدأ بقانون جديد، بل بتغيير سلوك المنفذين، ولا يبدأ بمنصة رقمية، بل بضمان استقلالية من يحتاج إليها، ولا يبدأ بإحصاءات، بل بواقع يشعر فيه المواطن أنه يعيش في وطن يعترف به.
ولا يمكن لأي مجتمع أن ينهض بينما يترك وراءه من يمكن أن يكون جزءًا من نهوضه. الأشخاص ذوو الإعاقة ليسوا عبئًا، بل فرصة ضائعة، قوة معطلة، طاقة تنتظر من يزيل عنها القيود. الإتاحة مشروع وطني للعدالة، الرقمنة ضرورة، الدمج واجب. الوقت لم يعد يسمح بالهدوء، لأن النار تحت الرماد قادرة على حرق مصداقية كل الإنجازات إذا ظل الملف معلقًا.
إنها لحظة فاصلة. كل يوم يمر بلا تغيير هو يوم تُحرق فيه حقوق ملايين، وكل منصة رقمية تُطلق بلا مراعاة الإتاحة هي صرخة صامتة تقول: “حقوقكم لا تهمنا”. لا تلمسوا التكنولوجيا كرمز للتقدم إذا كانت بوابتكم الرئيسية تُغلق في وجه مواطنيكم الأكثر احتياجًا إليها. كل إصلاح حقيقي يبدأ بالإرادة، بالمحاسبة، بالتصميم للجميع، وبالاعتراف أن التكنولوجيا ليست رفاهية، بل هي الحق الجديد الذي لا يمكن لأحد تجاوزه.
هذا زمن لا يحتمل المجاملة، بل الصراحة المشتعلة: مجتمع لا يُتيح… مجتمع لا ينهض… ومَن يتغافل عن حقوقه سيبقى أسير سور رقمي يضعه خارج كل فرص الحياة.




