الرئيسيةمقالات الرأي

عبدالحليم قنديل يكتب : لا اليمن عاد يمنًا ولا السودان

بقلم : عبدالحليم قنديل

 

ظاهرة التدهور الوجودي لأقطار عربية متصلة من سنوات وعقود، والمآسي متوالية من الصومال وليبيا وسوريا واليمن والسودان. وما حدث ويحدث في اليمن والسودان هو الأخطر اليوم، حيث تتدافع مخاطر تلاشي حضور البلدين كوحدات سياسية معروفة لأجيال سبقت ولحقت.

 

وعلى النحو الذي تمضي إليه الحوادث في السودان، تتوسع سيطرة ميليشيات «الدعم السريع» المتفشية في إقليمي «دارفور» و«كردفان» غرب السودان، وربما تمتد وسطًا وشرقًا، بدعم هائل من أطراف عربية معروفة منتفخة ماليًا، مع علاقات منظورة مريبة مع كيان الاحتلال «الإسرائيلي». وهي ذاتها الأطراف التي تسعى لخراب نهائي في اليمن، على طريقة اجتياح قوات «المجلس الانتقالي» المباغت لمحافظتي «حضرموت» و«المهرة» شرق وجنوب اليمن، وبمساحة تزيد على ثلث إجمالي جغرافيا اليمن، حيث تتركز أغلب موارده وحقوله البترولية.

 

ويشبه ذلك تمامًا ما جرى في مدينة «هجليج» ـ وقبلها «بابنوسة» ـ عاصمة حقول البترول السوداني، التي اجتاحها «الدعم السريع» مؤخرًا، وتوقف النشاط البترولي «الصيني» فيها تمامًا، بل أعلنت «شركة البترول الصينية» إنهاء عملها والخروج من السودان كله. وهو ما يهدد بنزح ما تبقى من رمق الحياة النظامية في البلد العربي الأفريقي المنكوب، وليس فقط تقسيمه إلى غرب وشرق بعد قسمة الشمال والجنوب.

 

وتتفاقم المآزق مع تراجع دور الجيش المعبر نظاميًا عن وحدة السودان، بعد خسارة تماسك وحضور «الفرقة السادسة» في «الفاشر» شمال «دارفور»، ثم «الفرقة 22» في «بابنوسة»، و«الفرقة 90» في «هجليج»، التي هربت بكامل أسلحتها إلى دولة جنوب السودان، مع تكرار وعود العودة القريبة إلى ميدان الحرب.

 

وفي رحلة تلاشي اليمن الذي كنا نعرفه، تبدو القصة صريحة فاقعة الأمارات. فما يسمى «المجلس الانتقالي الجنوبي» لا يعتبر نفسه طرفًا يمنيًا من الأساس، ولا يعترف بيمنية الجنوب وعاصمته «عدن»، ويعلن بعد الاجتياحات الأخيرة في «حضرموت» و«المهرة» أنه ينوي قريبًا إعلان ما يسميه «دولة الجنوب العربي» بعلم منفصل عن العلم اليمني.

 

لسنا ـ إذن ـ بصدد إعادة تقسيم اليمن، بل تجاوز اليمن ذاته إلى عنوان آخر، لا يعيدنا فقط إلى وجود «يمنين» شمالي وجنوبي كما كان الأمر بعد 1990، بل إلى محو كامل لاسم اليمن على الشواطئ الجنوبية في بحر «عدن» وجزيرة «سوقطري»، وعلى الشواطئ الغربية جنوب «الحديدة» بمحاذاة باب المندب والبحر الأحمر.

 

وفي السودان ومحنته، تمضي القصة إلى محو تاريخي لدولة السودان أيضًا، تحت شعار إزالة سودان 1956، وعلى النحو الذي تشير إليه وثيقة وحكومة «تحالف تأسيس» التي يترأسها «محمد حمدان دقلو» (حميدتي) ونائبه «عبد العزيز الحلو»، قائد الحركة الشعبية جناح الشمال. وقد لعب الأخير الدور الأبرز في التنظير لإزالة دولة 1956 تاريخ استقلال السودان.

 

وكان «الحلو» عنصرًا قياديًا في الحركة الشعبية منذ زمن قيادة المؤسس «جون قرنق»، الذي كان يرفع شعار «تحرير السودان» الموحد، ثم انقلبت الحوادث إلى التقسيم والانفصال الجنوبي، بدعم ظاهر من كيان الاحتلال «الإسرائيلي»، ودون أن يؤدي الانفصال إلى مصلحة حقيقية لسكان الجنوب، بل إلى حروب أهلية وصراعات قبلية لا تنتهي.

 

ودون تجاوز للمظالم أو إنصاف للمهمشين في أطراف السودان، على النحو الذي يدعيه «حميدتي» و«الحلو» اليوم، وتحتفي به قوى وأحزاب وجماعات «مدنية» ممولة من ذات الأطراف الإقليمية والدولية المعادية، التي تذهب بالسودان إلى هاوية الاندثار والتشظي اللانهائي، إن لم ينجح السودان النظامي في استعادة وحدة البلد أو ما تبقى منه.

 

ولا يصح تجاهل الدور السلبي للقوى السودانية الداخلية فيما جرى ويجري. ففي السودان أطياف وطنية مشهود لها، يضيع أثرها الجمعي في زحمة الارتهان لمراكز التمويل والدعم الإقليمي والدولي، وتتفق مرارًا على وصفات خلاص تعيد توزيع السلطة والثروة وتفتح طريق التطور الديمقراطي، لكنها تنتكس بانتظام وتخيب آمال الجمهور.

 

وتلتحق هذه القوى بظلال سلاح المتحاربين، وتفقد بوصلة البحث عن سلام سوداني قابل للدوام، وتدخل في خصومات لا تنتهي، وتفسح المجال لانحيازات خطرة تنمو فيها عناصر تطرف لا تتسق مع أعراف التسامح السوداني. فالتطرف ينجب التطرف، والفجوات بين الشعارات والوقائع تتسع.

 

وبعض الجماعات التي تدعي مساندة الجيش السوداني، تخون ـ دون قصد ـ مكانة وقومية الجيش وانتظامه الاحترافي، وتحول الساحات إلى فوضى فظائع متبادلة، تدخل البلد في دوائر مفرغة، وتجهض أحلام التوحيد، وتحول السودان إلى جغرافيا مذابح لا تنتهي.

 

وكما يحدث في السودان يحدث مثله في اليمن؛ فالقوى الوطنية اليمنية موزعة بين المتحاربين، وارتهانات الخارج ترمي بظلالها الثقيلة. الحوثيون المدعومون من إيران يسيطرون على أغلب محافظات الشمال، ولا تفلت من قبضتهم سوى «تعز» و«مأرب» الغنية بالطاقة، بينما يسيطر «المجلس الانتقالي الجنوبي» على مساحات أوسع ويتجه لإنكار الهوية اليمنية.

 

أما الحكومة المعترف بها دوليًا، فقد تذهب مع الريح عمليًا، و«عدن» التي تستضيفها مجرد عاصمة مؤقتة، وقد يصحو «المجلس الرئاسي» على ضياعها صباحًا. وفي خرائط الصراع، تتعقد القصة؛ فحكومة الانفصال تتجه إلى تطبيع «إبراهيمي» مع كيان الاحتلال، بينما حكومة الحوثيين في الموقف المعاكس، ودورها بارز في تحدي الهمجية الأمريكية الصهيونية.

 

ولا يبدو المشهد العربي العام مفيدًا لليمن ولا السودان، مع تحلل النظام الإقليمي العربي وغياب جامعة الدول العربية، وتحولها إلى هيكل بلا فاعلية. لا دور عربي جامع لنصرة وجود اليمن أو السودان، سوى تعبيرات «فولكلورية» عن احترام وحدة التراب.

 

ومع تفاقم صراعات مكتومة بين أقطار عربية، لا تتقدم أي نجدة حقيقية لصنعاء أو الخرطوم، وتكتفي الأحاديث بالتضامن الباهت، بينما تغيب معاهدات الدفاع المشترك ومعاني الاكتراث الجدي بالدول الوطنية.

 

وتتدخل أطراف مريبة بفظاظة، ولا تخفي رغباتها في التعاون الميداني مع «إسرائيل» لتمزيق استقرار السودان واليمن، دون وازع من ضمير أو رابطة قومية، بينما تضيع أطراف عربية وازنة في البحث عن وساطات دولية لا تهتم بمصير البلدين.

 

ومن وراء الأبواب المغلقة، ينتظر البعض نجدة العطف الأمريكي، وفق استراتيجية «دونالد ترامب» الجديدة التي تعطي الأولوية لدور «إسرائيل»، وتطلق مهامًا مرعية أمريكيًا و«إسرائيليًا» لشركاء عرب أغنياء، على رأسها خطط التقسيم والإفناء.

 

وتُستخدم أموال عربية في إهدار الدم العربي وتمزيق الأقطار العربية، وهو ما يبلغ ذروته اليوم في اليمن والسودان، مع غياب صيحات إنقاذ عربية جادة، وانشغال الجميع بدوام الحكم، وضياع معاني التضامن العربي.

 

ولا يبقى إلا القليل الذي لا يكاد يفي بالحاجة أو يرأب الصدوع، ولا يكاد يتذكر حتى قراءة الفاتحة في جنازات دول كانت يومًا ملء السمع والبصر.

 

البريد الإلكتروني:

Kandel2002@hotmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى