كريم المصري يكتب :اقتصاد الناس.. لا اقتصاد الأرقام!

بقلم : كريم المصري يكتب
ما إن تعلن تقارير المؤسسات المالية العالمية عن تعافي اقتصاد دولةٍ ما، حتى تكتشف أن مواطنيها ما يزالون يعانون من نفس الآلام! هذه المفارقة ليست خيالاً، بل هي واقعنا المصري الذي نعيشه.
في مكتب مكيف يجلس مسؤول أو خبير اقتصادي، يقلب بين يديه أرقاماً عن أداء الاقتصاد المصري، ثم يرفع رأسه مبتسماً ليعلن: “الانتعاش حقيقي، والنمو يتسارع، والإصلاحات تؤتي ثمارها”.
وفي نفس اللحظة، في شقة متواضعة بحي شعبي في القاهرة، تقف “أم محمد” أمام ثلاجة شبه فارغة، تحاول أن تستخرج من فراغها حلولاً لأزمة الشهر.. هي لا تقرأ تقارير النمو، لكنها تقرأ وجهي طفليها وتسأل بقلق: كيف توازن بين سعر الدواء وسعر الطعام؟ أيهما يقدمّ على الآخر؟
بين هاتين الصورتين، تختزل مأساتنا كلها.. فبينما تعلن الأرقام الرسمية عن “نجاح العملية” و”شفاء الاقتصاد”، لا يزال الجسد الاجتماعي يعاني من الأعراض نفسها: حمى الأسعار التي لا تنخفض، وضيق في الجيوب يزداد يومياً، ودوار في الحياة اليومية.
فالسؤال الذي يفرض نفسه: هل الخلل في جهاز القياس؟ أم في طريقة التشخيص؟ أم أن الحقيقة المرة هي وجود اقتصادين منفصلين: اقتصاد الأرقام اللامعة الذي يسافر بين التقارير الدولية، واقتصاد “أم محمد” الذي لا يبرح طوابير الانتظار وأزمات المعيشة؟
بين هاتين الصورتين، هناك هوة سحيقة..هوة بين “اقتصاد الأرقام” الذي تحتفى به التقارير، و”اقتصاد الناس” الذي نعيشه ونلمسه في أسواقنا، وفي جيوبنا، وفي نظراتنا اليومية المتعبة.
لست هنا لأشكك في مصداقية الأرقام، فالنمو الاقتصادي حقيقة، ومؤشرات البورصة تتألق، واستقطاب الاستثمارات يحقق أرقاماً قياسية..هذه كلها إنجازات تبعث على الفخر ويجب أن نعترف بها..لكن السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا لا نجد صدى هذه الأرقام في حياتنا؟ لماذا يزداد “الانتعاش” في التقارير، ويزداد “الانكماش” في قدرتنا الشرائية؟
الحقيقة المرة التي يجب أن ننظر إليها بشجاعة، هي أن اقتصاد الأرقام يسير بسرعة القطار السريع، بينما اقتصاد الناس يسير على عربة يجرها حمار! النمو قد يكون مرتفعاً، لكن “نوعيته” هي موضع الشك..إنه نمو لا يصل بثماره إلى من يحتاجه أولاً..إنه ازدهار تذوقه الشركات الكبرى والمستثمرون الأجانب، لكن رائحته لا تصل إلى المواطن البسيط في وسائل مواصلاته المزدحمة، وفي فواتيره المتصاعدة، وفي حلم السكن الذي يتحول إلى سراب.
التقارير الدولية تمدح صندوق النقد، وتشيد بخصخصة الشركات، وتتغنى بإصلاحات سعر الصرف..لكنها تقرأ الخريطة من الأعلى..أما إذا نزلت إلى الأرض، إلى الشارع المصري، فسترى أن “التضخم” ليس مجرد نسبة مئوية، بل هو معاناة حقيقية في طوابير الخبز، وفي نظرة الأم لطفلها وهي تحذف أصنافاً من “العربة” في السوبر ماركت لأن الأسعار لم تعد تطاق.
القطاع غير الرسمي، ذلك العملاق النائم، هو من يعيل الملايين الحقيقية في هذا البلد..إنه اقتصاد الصمود، وليس اقتصاد الأرقام اللامعة.. إنه الذي يحول بيننا وبين الانفجار الاجتماعي..فبينما تتحدث التقارير عن معدلات البطالة، تتغاضى عن ملايين المصريين الذين يعملون في وظائف هشة، بلا تأمينات، بلا مستقبل، فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.
إنها مفارقة العصر المصري: دولة تبني مشاريع عملاقة تخطف الأبصار، ومواطنون يكافحون من أجل تلبية احتياجات أساسية تخطف الأنفاس.
في تقديري لا يكمن الحل في رفض الأرقام أو التهجم على الإنجازات، ولكن في ربط الجسر بين الاقتصادين..متى يصبح النمو حقيقياً؟ عندما يلمس المواطن أن دخله الحقيقي يزداد، وأن جودة الخدمات التي يحصل عليها تتحسن، وأن الشعور بالطمأنينة تجاه المستقبل يعود إلى قلبه.
الازدهار الحقيقي ليس هو الذي تعلنه وكالات التصنيف، بل هو الذي تعلنه نظرات الرضا في عيون الناس، وهم يدفعون الفواتير بيسر، ويخططون لإجازة، ويطمئنون على مستقبل أولادهم.
السؤال ليس عن دقة الأرقام، بل عن أولوياتها.. فهل نستمر في بناء ازدهار على الورق، بينما تتعرض جيوبنا لانكماش يومي؟ الإجابة ليست في التقارير، بل في بيوت المصريين..اسألوا “أم محمد”، هي من ستحكم.




